اختفاء

تميز حكام الدولة الفاطمية بمنح أنفسهم ألقاباً تربطهم بالله، فأول خلفائهم بمصر معد بن إسماعيل بن محمد بن عبيدالله لقب نفسه بـ«المعز لدين الله»، وثانيهم نزار بن معد وصف نفسه بـ«العزيز بالله» وهكذا. ويبدو أن عدوى التلقيب القائم على الربط ما بين سلطة الأرض وسلطان السماء امتدت إلى الخلافة العباسية فأصبح خلفاؤها هم الآخرون يخلعون على أنفسهم ألقاباً تربطهم بالله، مثل «المعتصم بالله» و«المستعصم بالله». حتى ذلك الحين لم يكن اللقب يتجاوز حد ربط اسم من يحكم بالله على سبيل الاستعانة أو بالدين على سبيل الإعزاز، لكن الأمر اختلف عندما وصل الحكم إلى منصور بن العزيز بالله، فقد نحت لنفسه لقباً مثيراً، هو «الحاكم بأمر الله». ولا يخفى عليك ما يؤشر إليه هذا اللقب من معانٍ، فهو يقول إن الرجل يحكم بسلطة السماء، وجلس على الحكم بأمر الله، وبالتالى فكل ما يفعله مصدره الإلهام السماوى.

يرتبط تاريخ الحاكم بأمر الله بمجموعة من الغرائب والطرائف، تبلور أغلبها فى قرارات اتخذها، امتازت بدرجة لا بأس بها من الشذوذ، من بينها على سبيل المثال منع النساء من الخروج من منازلهن أو أن يطلعن من الأسطح أو من الطاقات (النوافذ) ومنعهن من الخروج إلى الحمامات، وقتل خلقاً من النساء على مخالفته فى ذلك، وهدم بعض الحمامات عليهن، وجهز نساء عجائز كثيرات يستعلمن أحوال النساء لمن يعشقن أو يعشقهن بأسمائهن وأسماء من يتعرض لهن، فمن وجد منهن كذلك أطفأها وأهلكها ثم إنه أكثر من الدوران بنفسه ليلاً ونهاراً فى البلد فى طلب ذلك. قرارات عديدة من هذا النوع تحكى كتب التاريخ أن الحاكم بأمر الله اتخذها، قد يكون بعضها صحيحاً، وبعضها موضوعاً بسبب الهوى السياسى لكُتاب التاريخ السنة، لكن من المؤكد أن من بين هذه الحكايات ما هو صحيح ويشهد على حالة المراهقة السياسية التى عاشها الرجل منذ أن اعتبر نفسه حاكماً بأمر الله.

انتهت حياة «الحاكم» بمقتله بترتيب من أخته. يقول ابن كثير: «كان قد تعدى شره إلى الناس كلهم حتى إلى أخته، وكان يتهمها بالفاحشة ويُسمعها أغلظ الكلام، فتبرمت منه وعملت على قتله، فراسلت أكبر الأمراء، وكان أميراً يقال له ابن دواس فتوافقت هى وهو على قتله ودماره وتواطآ على ذلك، فجهز من عنده عبدين أسودين، وقال لهما إذا كانت الليلة الفلانية فكونا فى جبل المقطم ففى تلك الليلة يكون الحاكم هناك فى الليل لينظر فى النجوم وليس معه أحد إلا ركابى وصبى فاقتلاه واقتلاهما معه، واتفق الحال على ذلك، فلما كانت تلك الليلة ركب الحاكم فرساً وصحبه صبى وركابى وصعد جبل المقطم فاستقبله ذانك العبدان فأنزلاه عن مركوبه وقطعا يديه ورجليه وبقرا بطنه.

وبغض النظر عن مدى الدقة فى هذه الرواية، فإن أمر الحاكم انتهى عند هذا الحد، لكن حكاياته لم تنتهِ، حتى ما يتعلق بوفاته، إذ يقول بعض المؤرخين إنه اختفى، وروجت العامة إلى أنه سوف يعود مرة ثانية، ولم يفهموا أنه مشى «فى سكة اللى بيروح ما يرجعش».

** عن الوطن

التعليقات