ورشة الزيتون أم شعبان يوسف؟

 

تأثرا بالمسلسلات البوليسية وأفلام الجاسوسية في الطفولة، كنت أتطلع دوما لأن أصير جاسوسة تتنكر في أزياء، وتتقمص شخصيات مختلفة لتقصي الأثر والوصول إلى الحقيقة، ولما لم يتسنّ لي هذا الهدف حرفيا حين كبرت، واحترفت الكتابة الإبداعية، ظل يراودني الحلم القديم، لكن نظرا لخطورة تحقيقه في الواقع، صرت أنشده في عالم الخيال، وصار أبطالي هم ضحاياي الذين أقتفي آثارهم وأتلصص على دقائق أمورهم، وفي الفترات التي ينضب فيها نهر الإبداع أبدأ في تتبع ومراقبة خطواتي الشخصية، لكن بأثر رجعي، وابدأ في تحليل المقدمات التي أدت إلى نتائج معينة.
أما سبب تلك المقدمة الطويلة وعلاقتها بورشة الزيتون، فهذا لأنني حين أراجع الـ"سي في" الإبداعي الخاص بي، وأعود خطوات إلى الوراء في الزمن، أجد أن اللحظة التي ألقت الضوء على هذا العمل أو ذاك،هي المرحلة نفسها التي كان يمسك فيها شعبان يوسف بالمصباح، ويقول للمتحلقين حوله: "انظروا..هذا شئ يستحق المشاهدة".
مكثت أحد عشر عاما أكتب في الظلام مجموعتين قصصيتين ورواية، ظلتا سجينتىّ الأدراج خوفا من النشر، الذي اعتبرته آنذاك مواجهة قاسية إن ظهرت الأعمال إلى النور، وثبت إنني لا أمتلك الموهبة الكافية للكتابة، ومع ذلك تورطت في النشر وصارت الفضيحة كلمات مطبوعة في مجموعة قصصية أولى صغيرة الحجم.
ترددت أمامي أسماء بعض الفرسان الذين يأخذون بأيدي المبتدئين أمثالي ووضعهم على أول طريق "المجد"، هكذا كنت أسميه مداعبة لأزيل التوتر عن نفسي، ومن بين الأسماء التي ترددت أمامي هي وصاحبها بشحمه ولحمه كان اسم "شعبان يوسف"، كان بصحبة صديقتي الكاتبة سحر الموجي التي قدمتني إليه وأوصته بي، ولا أدري كيف وجدت نفسي أجلس كفرسان المائدة المستديرة حول منضدة في " 1 شارع محمد إبراهيم ..متفرع من شارع سليم الاول..على ناصيته قهوة ألف ليلة". هكذا كان يكرر شعبان يوسف العنوان على كل من يتصل به مستفسرا عن العنوان، وهو يجلس على رأس المائدة مثل الملك "لانسلوت"، مظهرا الطيبة والود في بداية الجلسة، ثم يشتبك في مناظرة ويشتعل غضبا في المنتصف، حتى كان يخّيل إليّ أن الندوة ستنفض ونكتفي بهذا القدر من النزاع، لكن العجيب أن الأمور كانت تعود إلى حالتها الأولى وتنتهي الندوة بتبادل الأعمال الإبداعية وأرقام الهواتف بين المبدعين بعضهم البعض وبينهم وبين النقاد، أما المكالمة الأهم، فكانت تلك التي يجريها معظم الحضور بعد ساعات من انصرافهم شاكرين "الأستاذ شعبان"، عما حصدوه من فائدة على المستويين المعرفي والإنساني.
لم يخطر ببالي قط إنني سأجلس ذات يوم على مقهى في شارع سليم الأول لأشرب الشاي بالنعناع مع قامات مثل جمال الغيطاني، وخيري شلبي ويوسف القعيد ونوال السعداوي وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكر اسمائهم جميعا، لكن شعبان كان يحرص على أن يُدرج إسم المقهى ذاته في عنوان ورشة الزيتون نظرا لأهمية هذا الطقس الإنساني قبل البدء في الندوة أو بعد الانتهاء منها، كانت محاورات ومناقشات الورشة والمقهى مدخلا حميما للقاءات أكثر اتساعا على منصات تقليدية في معرض الكتاب وفي مؤتمرات المجلس الأعلى للثقافة وفي الحوارات التليفزيونية وندوات الأقاليم.
سأحكي مثل جدة طيبة تنبش في الماضي عن نوادر قلما تجدها في الحاضر، فأتذكر أن الأستاذ شعبان يوسف كان مثل مُعلم يدرس للأطفال أين يضعون النقط فوق وتحت الحروف، فقد كان يرشح لكل عمل لي من المفترض مناقشته أسماء النقاد الذين لا أدري عنهم شيئا، ويتصل في كل ندوة بنقاد ثلاثة من أرفع المثقفين، ليقوموا بتحليل العمل والقاء الضوء على عيوبه ومميزاته وتقنياته، كانت هذه الكلمات المرسلة في فضاء الورشة أو المجلس أو المعرض، تتحول إلى مقالات منشورة في صحف محترمة محلية وعربية،وكأنها شهادات موثقة أتباهى بها ككاتبة تم الاعتراف بها.
وأعود للـ"سي في" ليس بعين الجاسوسية أو المحقق السري، بل بعين الامتنان والعرفان بالجميل، فأتذكر صعودي إلى منصات معرض الكتاب التي كانت حلم أي كاتب متحقق، وبجانبي صديقي المثقف الكبير شعبان يوسف، يدير الجلسة بمهارة واحترافية، وتشاركنا قامات نقدية رفيعة المستوى تعترف بي محليا، وترشحني للترجمة في دور نشر أجنبية، والتي تأخذني بدورها إلى بلدان أوروبية، لكى أمثّل بلادي في محافل دولية، وأمارس حياة الكاتب الذي يتقلب على المدن والقرى في أقاصي الأرض، ويرتشف رحيقها ويخرجه على هيئة حكايات مثل أحبال وريدية تصل بلاد الأرض وقلوب أهلها ببعضهم البعض.
ليست هذه تهويمات أدبية ولا مبالغة إمعانا في الامتنان، فلقد تجاهلت تماما في شهادتي تلك دور الصديق الأقرب الذي أعلم أنه يستطيع أن يلعبه بمهارة مع كل من حوله، فلا يبخل بنصيحة أو معلومة أو مرجع، ولا يتجاهل رنين الهاتف، على الرغم من انشغالاته المتعددة في قراءاته وأبحاثه التاريخية التي يعكف عليها بالساعات، ليمدنا نحن قرائه بخلاصة الخلاصة، التي نتعاطاها في مقال له ولا يستغرقنا سوى بضع دقائق.
علمت منذ اسابيع إنه سوف يتم تكريمي في مؤتمر أدباء مصر، وبلغت من التأثر حد البكاء، ليس فقط لأن مصر بها آلاف الأدباء ممن يستحقون أعلى تقدير، بل لأن التكريم قد تم بدون وساطة أو توصية، لم يكن يعرف الأستاذ شعبان بهذا الأمر حين أخبرته به، ولم يعلم بأسماء القائمين على ترشيحي لهذا الشرف الكبير، لكن المحقق السري الذي يسكنني قد أخبرني بأن يدا طيبة كانت قد أشارت إليّ منذ عشرين عاما، وهي نفسها اليد التي حملت المصباح وألقت الضوء على حروفي التي كانت تتوارى في ظلام الأدراج.
التعليقات