صلاح جاهين.. الجميل نائمـًا

كان اسمه صلاح.

منحنا البهجة، ومات مكتئبًا.

فتشوا في أركان الذاكرة؛ ستجدونه في كل ركن منها:

يكتب "الليلة الكبيرة"، ويهتف "الشارع لنا"، ويتذكر "البلياتشو"، ويهدينا عصارة رباعياته، ويلتقط لنا "صورة"، ويشكل ملامح "زوزو"، ويحمل "البيانولا"، ويفضح الذين "بانوا"، ويبدع في رسوماته الساخرة العابثة اللعوب.

صلاح جاهين لم يغادرنا.

ها نحن نردد كلماته "الدنيا ربيع" حتى في ذكرى وفاته. هو الذي علَّمنا أن نتغنى بالربيع حتى وهو يستأذننا في بدء خريفه.

ومن لا يتذكر أداءه المبدع في الأدوار القليلة التي ظهر بها في السينما، من "بدير" في فيلم "لا وقت للحب" إلى "المعلم سلطان" في "اللص والكلاب".

فاذهب يا صلاح جاهين إلى حيث شئت. ستبقى هنا، والأخيرة محلها القلب.

"هو واحد من معالم مصر. يدل عليها وتدل عليه. نايات البعيد وشقاء الأزقة ودفوف الأعياد. سخرية لا تجرح، وقلب يسير على قدمين.

"يجلس على ضفة النيل تمثالًا من ضوء، يعجن أسطورته من اليومي، ولا يتوقف عن الضحك إلا لينكسر. يوزع نفسه في نفوس كثيرة، وينتشر في كل فن ليعثر على الشعر في اللاشعر. يأكل نفسه وينمو في كل ظاهرة، ينمو لينفجر".

هكذا وصف الشاعر محمود درويش المبدع صلاح جاهين بعد رحيله.

كان صلاح نسيج وحده.

كانت عبقرية صلاح جاهين متدفقة إلى درجة أنه دخل في شراكة مع ثنائيين فنيين في توقيتٍ متزامن، فقد شكّل ثنائيـًا مع سيد مكاوي، كما شكّل ثنائيـًا آخر مع كمال الطويل. انتمى مكاوي والطويل إلى مدرستين موسيقيتين مختلفتين، ومع ذلك فإن جاهين بذكائه وعبقريته عرف يكون الخيط الرابط بينهما، وتمكن معهما من احتلال مركز بارز في الإرث الثقافي الدسم، رفيع المستوى، الذي نستمتع به حتى الآن.

جاهين هو صاحب "الليلة الكبيرة"، ذلك العمل الفني الراقي الذي تم إخراجه في مسرحية العرائس "الأراجوز". تحفة فنية راقية كتبها صلاح جاهين، وشارك من خلالها في مباراة حماسية بين الشعر الرفيع والموسيقى الراقية، أثمرت تجسيدًا فذًا ووصفـًا عميقـًا لأجواء الموالد والاحتفالات الشعبية.

حتى الأغنية الوطنية ارتبطت باسم صلاح جاهين، فهو الذي كتب كلمات أغنيات مازالت حية في الذاكرة، مثل "بالأحضان"، و"المسؤولية"، و"يا أهلًا بالمعارك"، و"صورة"، وغيرها الكثير.

صلاح إذًا ثروة من اللغة المعبرة في الفن المسرحي والاستعراضي والسينمائي، وهو الرجل الذي كان على موعد مدهش مع التحولات الثقافية التي حملتها ثورة 23 يوليو إلى المجتمع المصري أولًا، وسائر المجتمعات العربية.

هو الشاعر الذي عرضوا عليه كتابة "المسحراتي" فقال إن فؤاد حداد سيكتبها أفضل منه، وهو القائل أيضـًا: "أنا الأشهر وفؤاد الأشعر". جاءت تلك المقولة المكثفة والعميقة، ردًا على سؤال وجه إليه حول فؤاد حداد ومكانته على الخارطة الشعرية، أراد صلاح جاهين من خلالها أن يرد عمليـًا على من يقيسون الموهبة فقط بمعيار الشهرة والتداول الرقمي.

صلاح جاهين أيضـًا هو الكاتب الذي قدم الشاعر الغنائي سيد حجاب بوصفه موهبة المستقبل.

هو المبدع الذي كان قادرًا على أن يصل للأعماق والإبحار إلى أقصى درجة من درجات العمق في الذات والبحر الإنساني.. وقادرًا على أن يطفو إلى السطح الظاهر ليرى كل الأشياء.

هو الأب الروحي الذي تبنى أحمد زكي، ووثقت في رأيه سعاد حسني، واستضاف شريف منير في بيته.

في "الرباعيات"، التي خرجت كاملة في عام 1963، نلمح سمة الحزن تلك التي غلبت على الرومانسيين قاطبة. يقول جاهين "يا حزين يا قمقم تحت بحر الضياع/ حزين أنا زيك وإيه مستطاع؟/ الحزن ما بقالهوش جلال يا جدع/ الحزن زي البرد زي الصداع.. عجبي".

في "الرباعيات" يتواجه القارئ مع ألفاظ من صميم اللسان الجاري؛ لذا فإن تلك "الرباعيات" الجاهينية" تتسم بمتعة خاصة ناشئة من ذكاء اختيار الكلمات ومن خلالها ينطلق عبق وأريج خاص مصدره التربة المصرية، إلى جانب رائحة تفوح من عتاقة التاريخ ومتانة الحضارة وقوة الاحتواء. لكل تلك الأسباب نقرأ ثم نقرأ "الرباعيات" وفي كل مرة نكتشف الأبعاد المختفية".

ببساطة، قدم جاهين عصير اللهجة المصرية الدارجة بأسلوب شديد الرقة والسمو، مع جانب فلسفي عميق لا تخطئه العين. كان له الفضل الأكبر في تطوير الشعر الغنائي وتمكينه من أن يتسع لكلمات كانت في السابق تعد بعيدة كل البعد عن روح الشعر وكلماته.

هذا الجميل النائم، ما زال حضوره طاغيًا رغم الغياب.

التعليقات