احسان .. فوق الشجرة !

حان الوقت لكي يعترف التاريخ بإحسان عبد القدوس " ، هكذا قلت لنفسي وانا أكتب لأول مرة عن كاتب استثنائي عظيم أثر في عقل ووجدان الملايين ، ودائما ماكنت اتساءل لماذا لم ينصف تاريخ الرواية العربية والنقاد والمؤرخين احسان ككاتب فذ ومقاتل من اجل الحرية وكمفكر اجتماعي خاض معارك شرسة لتغيير نظرة المجتمع للمرأة حتى اجبر سلطة الرقابة على قبول أفكاره الجريئة التي غيرت شكل ومضمون السينما المصرية وفتحت امامها ابواباً واسعة على عالم جديد اختلطت فيه السياسة والمجتمع بقصص الحب التي غيرت مسار السينما وسمحت لاجيال جديدة من المخرجين والكتاب ان يقودوا ثورة القوة الناعمة المصرية .

، كان احسان عبد القدوس بطل المعارك الكبرى والكاتب الوحيد الذي خاض معركة الحرية ، ..حرية الصحافة وحرية الكتابة في أشد العصور بطشاً . ولم يكن احسان هو كاتب فتيات نادي الجزيرة ونساء الطبقة الراقية كما اتهموه ولكن كان هو من كتب " ياعزيزي كلنا لصوص " وهو من دافع عن العمال والمظلومين قبل ٢٣ يوليو في " شئ في صدري " وهو من فضح الجهاز السري في " لا تطفئ الشمس " .
ورغم ان احسان قدم اكثر واجرأ ماقدمته السينما والدراما المصرية ( ٧٠ عملاً) الا ان نقاد الستينات لم يضعوه في مكانته اللائقة بجوار نجيب محفوظ ويوسف ادريس ويوسف السباعي ، اعتبروه كاتباً ارستقراطياً يتناول قضايا غير جماهيرية ولا تتفق مع شعارات وتوجهات عبد الناصر  ، وقد كتب احسان لعبد الناصر مباشرة بعد اعتراضه على فيلم البنات والصيف الذي يواجه فيه المشاكل الجنسية لجيل الشباب يقول " انا لست الكاتب الوحيد الذي يتناول الجنس بشجاعة في رواياته ، فقد تناوله توفيق الحكيم في عصفور من الشرق وعبد القادر المازني في امرأة وثلاثة رجال وكانوا أكثر جرأة مني ، واذا كنا نعتبر ان الجنس فطرة وجزءا من الحياة بل ويشكل مشكلة اجتماعية ونفسية خطيرة فلابد من مواجهته ومعالجته بشجاعة وبدون ان ندفن رؤسنا في الرمال " . وبعدالرسالة سمح عبد الناصر بعرض الفيلم بدون حذف .
ولم تكن معركة احسان مع عبد الناصر ومع السادات من بعده فكرية وسينمائية فقط ولكنها كانت سياسية ايضا دخل بسببها احسان السجن رغم صداقته وقربه من السلطة .
احسان عبد القدوس كان ابن الليبرالية المصرية في عصرها الذهبي ، وكان تجسيداً لانفتاح مصر وريادتها في محيطها الاقليمي ، مصر الانسانية كما وصفها الشاعر العظيم فؤاد حداد ، أمه فاطمه اليوسف التي احتضنتها القاهرة بعد الحرب العالمية الاولي قادمة من لبنان، هناك تربت في كنف اسرة مسيحية وفي مصر تتزوج من مهندس عاشق للفن هو محمد عبد القدوس ، لتنجب احسان الذي يكبر في مجتمع تقوده نخبة من كبار المثقفين والمفكرين ، ويتولى في سن صغيرة ( ٢٦عاماً) رئاسة تحرير المجلة التي حملت اسم والدته الفنانة والمثقفة الكبيرة روزا اليوسف ، ومن بعدها رئاسة تحرير اكبر الصحف المصرية آنذاك اخبار اليوم ، ثم يخوض الصحفي الروائي  غمار السينما ذلك الفن الجماهيري الجبار ليصبح اهم كاتب مصري على الاطلاق يقدم للسينما هذا الكم من الاعمال المتنوعة الرائعة الممتعة والمثيرة للجدل في آن .
احسان عبد القدوس كان ابن مصر السمحة المتسامحة التي فتحت ذراعيها لكل مبدع عربي ، كاتب او ممثل او مطرب ، او موسيقار ، ومن كان يتصور ان فتاة قادمة من لبنان موهوبة في التمثيل وعاشقة للمسرح تصدر اول واهم مجلة سياسية مصرية في ذلك العصر ومن بعدها اجمل واهم مجلة للشباب هي صباح الخير ، لتصبح هي ومن بعدها ابنها الموهوب من اهم رموز الفن والصحافة في مصر ؟!
وهل هناك من يتجرأ ليقول ان فاطمة اليوسف غير مصرية ، او ان اصلها التركي اللبناني يمكن ان ينزع عنها جينات الابداع والروح المصرية التي اورثتها لابنها النجيب ؟
ان احسان عبد القدوس هو سليل الخلطة السحرية السرية المصرية التي طالما انجبت العظماء في كل جيل وكل مجال ، نعتبره اليوم في ذكراه الاب الروحي للسينما الجميلة ، والمكتشف العظيم لقدرات فنانات أضأن وجه الشاشه ، فاتن وسعاد ونادية ونبيلة ولبنى ، الى ان صعد مع العندليب وميرفت على الشجرة وكتب لهما الفيلم المصري التاريخي الاعلى ايراداً حتى الان " ابي فوق الشجرة " ، فإستحق احسان عبد القدوس ان يعتلي أعلى شجرة الرواية السينمائية في مصر ، واستحق ان يحتل مكانه ومكانته اللائقة بين الرواد المجددين العظام .

(أخبار الفن)

التعليقات