التجريف السياسى

كثر الحديث فى الآونة الأخيرة عن تصحر البيئة السياسية المصرية، وأن البيئة الحزبية جدباء وتحتاج إلى جهد مكثف من أجل تنميتها وتطويرها وإنهاء حالة الجدب السياسى والحزبى التى تسود البلاد. وهو وصف صحيح ودقيق ولكن يعوزه التأصيل التاريخى، فالحياة السياسية والحزبية فى مصر منذ عشرينيات وحتى مطلع خمسينيات القرن الماضى، لم تكن جدباء بل كانت أكثر نموا وتطورا من مثيلتها فى دول جنوب ووسط أوروبا، وأن تصحر الحياة السياسية والحزبية جاء بفعل حركة الجيش فى يوليو 1952 وما قام به مجلس قيادة الثورة من إلغاء للأحزاب وتشويه للحزبيين والسياسيين المدنيين بصفة عامة، وتكفى الإشارة إلى أن مبدأ من المبادئ التى رفعت وعلموها للنشء هو القضاء على الفساد السياسى فى إشارة إلى الاحزاب ومبدأ آخر هو إقامة حياة سياسية ديمقراطية، وهو ما لم يحدث، بل تم القضاء على الفكرة وتشويه النخب السياسية وتدمير النخب الاقتصادية وإضعافهما.

كشفت ثورة الخامس والعشرين من يناير عن حجم التجريف السياسى الذى حدث فى البلاد والذى تضاعف فى عهد مبارك الذى استمر فى الحكم ثلاثة عقود معتمدا على نخبة مغلقة، محدودة، وكيف قام نظام مبارك من خلال لجنة شؤون الأحزاب التى كان يقودها الأمين العام للحزب الوطنى فى تفصيل أحزاب سياسية من خلال جهاز أمن الدولة للقيام بدور المعارضة الشكلية. لم يفتح نظام مبارك النخبة السياسية للتجنيد من خارج الدائرة الضيقة التى كان يعتمد عليها، ولم تكن للأحزاب السياسية الكارتونية أى دور سوى تمثيل دور المعارضة، أما الأحزاب المعارضة الحقيقية والقوى السياسية التى حرمها نظام مبارك من تأسيس أحزاب سياسية فقد ظلت تمارس دور المعارضة الاحتجاجية وأحيانا كانت تبرم الصفقات مع النظام من خلال أجهزة الأمن للحصول على عدد من مقاعد البرلمان مثلما كانت تفعل جماعة الإخوان المسلمين.

بنى نظام مبارك صيغة محددة للتعامل مع القوى السياسية المختلفة تمثلت فى قتل كل القوى التى يمكن أن تمثل بديلا مدنيا له، فقد منح شخصيات انتهازية حق تشكيل حزب سياسى للعب دور المعارضة، أما القوى التى كان لها قدر من التأييد فى الشارع فقد حرمها من الحصول على حزب سياسى وتركها تعمل من خلال حركات ومنظمات. كان نظام مبارك يعمل على البقاء فى الساحة منفردا مع جماعة الإخوان فقط، حتى يخير المصريين بين نظامه وبين حكم المرشد والجماعة، كان كثيرا ما يلجأ إلى الصفقات مع الجماعة وكان يقدم لها جزءا يسيرا من «الكعكة» وعندما تطمع فى المزيد كان يوجه لها الضربات الأمنية فقط كى تعود إلى رشدها وتلتزم بجوهر الاتفاقات التى كانت تتوصل إليها مع أجهزة الأمن.

خلال فترة حكمه التى دامت ثلاثة عقود كاملة لم يفتح مبارك النخبة السياسية، حافظ عليها نخبة مغلقة، واعتمد على شخصيات لفترات زمنية طويلة حتى شاخت فى السلطة وشاخ معها النظام، هذه الشخصيات عمدت إلى قتل الصف الثانى حتى لا يجد النظام بديلا لها، وحتى تبدو الفجوة كبيرة للغاية فى حال تغيير الشخصيات القيادية، بات قتل الصفوف الثانية سياسة مبرمجة فى النظام، فى الوزارات والمصالح الحكومية، فى المؤسسات العامة. النتيجة المنطقية لذلك كانت فقدان الأجيال التالية من السياسيين والمهنيين الخبرات اللازمة، وإذا تحدثنا عن السياسة فسوف نرصد بسهوبة فقدان رجال المعارضة من مختلف الأعمار الخبرات السياسية اللازمة التى تجعل منهم رجال دولة، ويمثلون بدائل حقيقية لرجال النظام، تحول غالبية رجال المعارضة إلى رجال أعمال بشكل أو بآخر، منهم من تحول إلى سمسار عمل مع أجهزة النظام ومنهم من نسج روابط وصلات مع نظم خارجية، ومنهم من أفاد صناعته الخاصة من خلال لعب دور المعارض، من هنا اتسمت المعارضة المصرية بأنها ظاهرة صوتية، لا خبرة سياسية لديها وعجزت عن ممارسة دور رجل الدولة بعد ٢٥ يناير، فقد اتسم سلوكها بالاضطراب والتخبط ولم تحترم الحدود الأيديولوجية مع القوى الأخرى فرأينا القومى واليسارى يتحالف مع اليمين الدينى، ورأينا من الليبراليين من دخل على خط التعامل مع الجماعة الإرهابية للحصول على مكاسب سياسية متصورة. إذا انظرنا إلى حال الأحزاب والقوى المدنية اليوم وحالة التخبط التى تسود صفوفها وعدم قدرة البعض على تقديم مصلحة الوطن على مصالحه الخاصة فسوف نعرف كم هى ثقيلة جريمة يوليو 1952 ونظام مبارك فى تجريف الحياة السياسية فى البلاد، أما القضاء على جدب الحياة السياسية والحزبية فلا يحتاج سوى رفع يد جهاز الأمن عن إدارة الحياة السياسية والحزبية وتطبيق مواد الدستور التى تمنع قيام الأحزاب السياسية على أساس دينى، عندها ستنمو الأحزاب وتعمل فى بيئة صالحة تقضى تدريجيا على الجدب الذى أكل الأخضر واليابس منذ يوليو 1952.

التعليقات