الثورة الأولى!

الثورة أولاً مشروع هائل للتغيير، قائم على قيم جديدة، وثانيا بداية لبناء مؤسسات تجسد الأفكار وتضعها فى مسار الحركة، وثالثا إطلاق طاقات الناس لكى يحققوا فى المستقبل ما عجزوا عنه فى الماضى. هى حدث أو مجموعة أحداث تنقل حالة إلى حالة أخرى مختلفة نوعيا عن سابقتها، وقد تكون الحالة علما، أو بشرا، أو وطنا. وفى مصر فإن أولى ثورات العصر الحديث كانت تلك التى جمعت مجموعة من علماء الأزهر بقيادة عمر مكرم لكى يضعوا محمد على واليا على مصر، ومع توليه لم تعد مصر كما كانت، فانتهى إلى غير رجعة العصر المملوكى، وكانت نقطة البداية للخلاص من الحكم العثمانى. ثانية الثورات فعلها أحد عرابى ومجموعة من ضباط الجيش وجمع من الساسة والمثقفين الجدد الذين نتجوا من إصلاحات الواليين سعيد وإسماعيل، ورغم فشل الثورة وانتهائها بالاحتلال البريطانى واستمرار مصر تحت السيادة العثمانية، فإن الميلاد المصرى من الرحم العثمانى أصبح مسألة وقت. ثورة ١٩١٩ كانت أولى الثورات التى خرجت منها الدولة المصرية، مملكة كانت أم جمهورية، لم تكن تلك هى القضية، وإنما كانت أن مصر باتت كيانا سياسيا يعترف به العالم ويتعامل معه على أساس ما يتمتع به من سيادة. انتهت الحماية البريطانية التى فُرضت على مصر خلال الحرب العالمية الأولى، ومعها انتهت وصاية الخلافة العثمانية، بل إنه لم يمض وقت طويل حتى انهارت الخلافة ذاتها. أصبح المصريون شعبا لا رعايا، كما باتت مصر دولة لا ولاية أو محمية، وأصبح السؤال الملح هو: ماذا يفعل المصريون باستقلالهم؟ وكانت النتيجة أنهم فعلوا الكثير من وضع الدستور إلى بناء الجامعات إلى إقامة النظم البنكية والانتقال من الزراعة إلى الصناعة، وعرفوا التكنولوجيات الحديثة من صحافة إلى إذاعة إلى الطيران. ورغم استمرار الاحتلال الإنجليزى تحت أكثر من شعار واتفاق، فإن مصر كانت مصنفة ضمن بلدان العالم المتقدم، وفى عام ١٩٢٥ جرى اختيار القاهرة كأكثر مدن العالم نظافة، وأثناء الحرب العالمية الثانية كانت العاصمة المصرية من أهم حواضر العالم التى يجتمع فيها قادة الدول المتحاربة للبحث فى شؤون الحرب والسلام.

لم تكن ثورة ١٩١٩ هى آخر الثورات، وإنما تلتها ثورة ١٩٣٠ لاستعادة دستور ١٩٢٣ الذى قامت على أساسه الدولة، وجاءت بعدها ثورة ١٩٥٢ التى قامت بها حركة الجيش «المباركة»، وفى القريب جرت ثورتان: واحدة فى يناير ٢٠١١، والأخرى فى يونيو ٢٠١٣، وجرى اعتبارهما ثورة واحدة. ولم تكن كل هذه الثورات لتنقص من شأن أى ثورة، واحدة منها هى التى بدأت فى ٩ مارس ١٩١٩ أسست للدولة المصرية، لا ثورة قبلها، ولا بعدها، كانت لها هذه الصفة. وفى تاريخ العالم فإن الثورات المؤسسة للدول هى التى ظلت الثورة الأصلية، وما جاء بعدها فروع وأحداث كبرى، وحتى ثورات يجرى تذكرها والاحتفال بها كأعياد وطنية. الثورة الأمريكية فى ٤ يوليو ١٧٧٦ تكرر مثلها بعد انتهاء الحرب الأهلية وإجراء التعديلات الدستورية أرقام ١٣ و١٤ و١٥ التى أقرت المساواة وحررت العبيد وأعطتهم حقوق الانتخاب، وبعضها الآخر تكرر لأسباب تكنولوجية أو للاعتراض على سياسات مثل الحرب الفيتنامية. ولكن عيد الاستقلال ظل هو موعد «الثورة الأولى» الذى يحصل فيه الأمريكيون على إجازة رسمية، يعلقون فيها الأعلام، ويحتفلون بالطعام والشراب.

ومنذ بداية هذا العام فإن كثيرا من الزملاء والأصدقاء والباحثين والمؤرخين تناولوا ثورة ١٩١٩ بمناسبة عيدها المئوى، وجرى الكثير من استعادة تفاصيلها الدقيقة، وما حققته من نقلة كيفية فى مستقبل البلاد. ما يهمنا هنا بهذه المناسبة هو أن تكون هذه الثورة هى الثورة التأسيسية للدولة المصرية، وما تبعها من ثورات، كما كان قبلها، يكون بالطبع جزءا من تاريخنا بحلوه ومره معا. دول العالم فى عمومها يكون لها عيد وطنى واحد، يضاف لها عدد من المناسبات الدينية، ويكون المجموع هو عدد الأيام التى يحصل فيها المواطنون على إجازات رسمية، وتحتفل بها مؤسسات الدولة وسفاراتها فى الخارج. ومصر عيدها المعتمد هو ٢٣ يوليو ١٩٥٢ الذى لا يؤسس للدولة المصرية وإنما لنظام للحكم وإدارة الدولة له ما له وعليه ما عليه. وإذا كان الرئيس السادات قد وضع لبنة الاعتراف بأن ثورة ١٩١٩ هى الثورة المؤسسة عندما جعل من نشيد بلادى لسيد درويش هو السلام الوطنى للدولة، فإن ٩ مارس يجب أن يكون أيضا هو عيد استقلال مصر، أما بقية الأعياد فهى ذكريات لا ينبغى نسيانها، فهى جزء مهم من التاريخ الوطنى.

 

التعليقات