ما وراء أحمد خالد توفيق !

لوحة نحاسية على الباب الخشبى كتب عليها بخط عريض "دكتور رفعت إسماعيل"
ما ان ضغطت على الجرس حتى فتح الباب وظهر من ورائه رجلآ مسنآ ملتفآ فى روب منزلى نظر الى بفضول فأبرزت له البطاقة التى وصلتنى .أخرج نظارة طبية من جيبه وقرأها ثم أبتسم وأفسح لى الطريق .قادنى عبر ردهة مظلمة ألى غرفة مكتب عتيقة يشغل أحد حوائطها أرففآ متعددة رصت فوقها كتبآ عديدة بدا بعضها باهتآ من القدم. أشار لى إلى مقعد وثير عتيق وأتخذ مجلسه أمامى على مقعد مشابه
سألته
- هل حضرتك من أرسلت إلى بطاقة الدعوة للمقابلة؟
-  نعم أنا رفعت إسماعيل الذى كتب عنه المرحوم الدكتور أحمد توفيق
إبتسم لأمارات الدهشة البادية على وجهى فبادرته
- عفوآ ....ولكن الجميع يعرف أن الدكتور رفعت إسماعيل قد توفى عام 2014 كما ذكر المرحوم أحمد خالد توفيق فى آخر سلسلة ما وراء الطبيعة .
- أعلم ذك...دعنى أشرح لك...الدكتور توفيق رحمه الله كان طبيبى المعالج وخلال رحلة علاجى توطدت أواصر الصداقة بيننا وصرت أعتبره بمثابة أخى الأصغر وبعد فترة أطلعته على ما مر بى من أحداث غريبة فلاقت هوى شديد فى نفسه لولعه بهذا لنوع من الكتابات والقصص والتى ربما قرأ معظم ما نشر منها .أثارت حكاياتى الرغبة فى نفسه أن ينشرها فلم أعترض . كنت أسترجع كل حكاية معه وكأننى أعيشها مرة أخرى. أما قصة موتى فى آخر أعداد السلسلة فقد كادت أن تحدث بالفعل فقد توقف قلبى أثناء إحدى زياراتى العلاجية لكنه أستطاع إنقاذى وقرر بعدها أن إسترجاع الحكايات يمثل خطرآ على حياتى لأننى كنت أتمثلها وأنفعل وأنا أحكيها وعليه فقد قرر ان يوقف الحكايات وينهى السلسلة بخبر وفاتى.
- هذه مفاجأة حقيقية ولكن هل قررت أن تعلن عن وجودك على قيد الحياة الآن بعد وفاة دكتور توفيق؟
- كلا فصحتى لن تحتمل إثارة هذا الأمر مع كل ما سيحيط به من من ضجة ومطاردة من الإعلام
- علام هذا اللقاء إذن؟
-  لقد فوجئت بما أثارته وفاة الدكتور توفيق من هجوم عارم وإدعاء أنه ينتمى لتيار الإسلام السياسى وهو مالم أعرفه عنه أبدآ كما أنهم قاموا بتسفيه كل كتاباته والحط من قيمته ككاتب ولذا أردت أن اوضح بعض الامور التى أعرفها لما كان من قربى الشديد منه
-  من ناحية إستخدامه فى معارك سياسية فلك كل الحق فى رفض هذا ولكنه مثل اى كاتب من حق الجميع ان يناقشوا ادبه وينقدوه طالما إلتزموا بالموضوعية.
- ألا يكفى أنه امتع الملايين من الشباب بكتاباته ودفعهم للقراءة أليس هذا بكاف له كقيمة ادبية؟.
-  أنت تتحدث عن أمرين مختلفين الأول هو تأثير الدكتور توفيق فى دفع الشباب للقراءة والإطلاع والثانى التقييم النقدى الأدبى لأعماله وهنا فإن القضية ليست مجرد المتعة ولو أنها إحدى العناصر وإنما للقيمة كالفرق بين الطعام اللذيذ وبين قيمته الغذائية .
التقييم النقدى للرواية يعتمد على تحليل عوامل مختلفة ودراستها من حيث رسم وتجسيد الشخصيات والسرد الروائى والأسلوب واللغة والقضايا التى تعالجها الرواية وعوامل أخرى مختلفة.
- وهل تناول أحدآ أعماله بالشكل الذى تتحدث عنه ام أن الأمر لم يخرج عن إنطباعات متناثرة أو هجوم وسخرية بلا تحليل؟
- دعنا نحدد ما الذى تريد أن توضحه فى لقاؤنا هذا؟
- أريد ان ألقى بعض الضوء على الرجل وكتاباته وربما سبب تعلق الشباب به.
- هذه نقاط هامه بالفعل وأعترف أن لدى فضولآ شديدآ فيها.دعنى أسألك اولا لماذا قرر الدكتور توفيق أن يكتب حكاياتك أنت بالذات؟
- كان هذا أولآ إختيارآ طبيعيآ فهو مولع بهذا النوع من القصص وثانيآ فقد رأى أنه أفضل أنواع القصص التى يمكن أن تجذب الصغار للقراءة
- لماذا هى الأفضل؟
- كان الدكتور توفيق يرى أن الفضول هو المحرك الرئيسى للعقل البشرى وأن الفضول يشتد كلما كانت السن صغيرة وأن الصغار والمراهقين يدفعهم الفضول للبحث عن كل ماهو غريب وربما بدأ هو أيضآ بقراءة هذا النوع فى صباه فأراد ان يكرر التجربة مع الآخرين .كان مؤمنآ بقوة الحكايات الخيالية وكان يقول أن كل قصص الأطفال تدور فى عوالم خيالية غير مألوفة ولولا هذا لأنصرفوا عنها.
- صحيح ولكن القراءة لنوع واحد من القصص او الكتب لا تعطى بعدآ ثقافيآ أو وجدانيآ واسعآ.
- نعم ولكن القصص المصورة والسينما ومسلسلات التليفزيون كل هذه الوسائط السهلة قد قتلت عادة القراءة التى اهملتها البيوت والمدارس فهى بالتأكيد بداية جيدة
- لا أدرى إن كانت الكتابة الغريبة هى أفضل الوسائل للتشجيع على القراءة.
- ألا تعلم أن رولنج مؤلفة سلسلة هارى بوتر قد صرحت أن هدفها الأصلى من كتابة قصصها هو أن تدفع أولادها للقراءة.وهى أيضآ قد إستعملت نمط قصصى غريبآ واحدآ وهو قصص السحرة.لقد بيع من قصتها الأولى حجر الفلاسفة 450 مليون نسخة وترجمت إلى 80 لغة مختلفة وبرغم هذا لم تسلم من هجوم النقاد عليها وإتهامها بالسطحية والسذاجة. هذا مافعله الدكتور توفيق أيضآ سواء بوعى أو بغيره ويتهمونه ايضآ بنفس الإتهامات
- كلامك منطقى ولكن المقارنة بين رولنج وتوفيق تتوقف هنا فلا أستطيع بشكل موضوعى أن اقارن بين العملين بغير أن أن أبحث عن جوانب الإبداع وحرفية رسم الشخصيات وخلق التسلسل الروائى الغنى بالأحداث كما أن كتابات رولنج قد تعرضت لقضايا هامة مثل العنصرية وإهمال اليتامى واضطهاد الضعفاء وهى أمور لم يتطرق لها توفيق فى كتاباته
- عموما يكفيه اشتراكه مع كاتبة بهذا الشأن والإنتشار فى الهدف والوسيلة
-  حسنآ ولكنى يجب أن أقول أن الفضول والغرابة وحدهما بدون العادة يمكن أن يجعلا القراءة فعل عشوائى متروك للصدفة ولا يخلقان عادة القراءة
- أسلوب السلسلة الروائية الذى إستعملته رولنج وتوفيق يساعد على خلق العادة
- كيف تخلق السلسلة الروائية العادة؟
- السلسلة تجعلك مدمنآ والإدمان هو أقصى تمكن للعادة وهو مايبدو أن توفيق فعله
- ولكن ادمان نوع واحد من الكتابة قد يقود الى فقد فضول البحث عن منابع اخرى للقراءة خصوصآ أن البعض لا يرى أن هذا النوع من الكتابة كأفضل ما يمكن قرائته
- لماذا هذا الهجوم على نوع كتاباته وتسفيهها والنظر اليها بشكل سلبى ألا تعلم ان أوسع انواع القصص إنتشارآ فى بريطانيا هو قصص روايات الجريمة؟ هل يجعلنا هذا ننظر للبريطانيين باعتبارهم شعبآ سطحيآ وهم أكثر الشعوب قراءة؟ ثم ان توفيق كتب الشعر والمقال والقصص فى مجالات اخرى وتكفى مظاهر الحزن وتعلق الشباب به لنعرف مقدار تأثيره
- هذه نقطة اخرى تحتاج إلى تفسير هذا الإرتباط العميق بالكاتب بشكل شخصى والذى أدهش الكثيرين بما ظهر من حزن عميق من الشباب على رحيله والذى دفعهم لكتابة الرسائل له على جدران مقبرته وهو شكل لم يمارسه المصريون الا فى رسائل التضرع التى كان البسطاء يصيغونها فى اضرحة الاولياء
- هذا لأنه كان شهرزادهم
- تقصد الف ليلة ....صحيح الف ليلة هى أيضا سلسلة من القصص الغريبة والتى تعتمد على إثارة الفضول ولكن هذا لا يوضح علاقتهم الحميمة به
- الشباب لو تعلم على قدر كبير من فقدان التقة فى الرموز والمشاهير... هم كشهريار الذى فقد الثقة فى كل النساء فلما جاءت شهرزاد واستدرجته بالفضول أدرك بالتدريج دماثة خلقها ووفائها وصدقها فأحبها كما أحب حكاياتها. هذا ماحدث بين الشباب وبين توفيق أحبوا حكاياته واحبوه ووثقوا فيه فى زمن تساقطت فيه الرموز والمثل. أحمد خالد توفيق خلق ألفة بينه وبين الشباب حتى أبطال قصصه كان يجعلها قريبة من مجتمعهم فصار وكأنه أحد الأقرباء المحبوبين . لا تنسى أيضآ أن شخصيته الرومانسية قد
لاقت صدى فى النفوس البريئة فى السن الصغيرة .
عمومآ أرجو ان أكون قد ألقيت بعضآ من الضوء على أسئلة أثارها رحيل الدكتور توفيق واشكر لك إستجابتك لدعوتى
......................................................................................
أما أنا فما زلت لا أعلم هل كان هذا مجرد حلمآ اثاره الجدل الدائر أم أنه كان إحدى حكايات ماوراء الطبيعة صاغها المرحوم أحمد
خالد توفيق فى منامى....رحمة الله

التعليقات