البغدادي وعقدة الجماعة

حينما وقعت سلسلة تفجيرات «عيد الفصح» فى سريلانكا سارع كثير من المحللين فى بلادنا وفى مختلف أنحاء العالم إلى القول بثقة إن تلك التفجيرات، بضحاياها الذين قاربوا الثلاثمائة، هى رد فعل «متوقع».. على عملية مسجد نيوزيلندا، وكان منطق المحللين أن التطرف والعنصرية تجاه المسلمين ولّدا تطرفا وعنصرية فى الجانب الآخر تجاه الكنائس والمسيحيين، وكان هناك إصرار على ذلك التحليل، رغم وجود مؤشرات تنفى أن يكون ذلك هو الدافع لتلك التفجيرات، إذ تبين أن المخابرات الهندية نبهت نظيرتها فى سريلانكا قبل ثلاثة شهور من العملية لوجود تنظيمات إرهابية وتخطيط لعمليات من هذا النوع لديهم، وتعاملت الجهات المسؤولة فى سريلانكا بروح شديدة البيروقراطية مع تحذير المخابرات الهندية الذى تكرر، أى أن التحذير كان قائما قبل وقوع مذبحة مسجد النور فى نيوزيلندا بأكثر من شهرين، إلى أن ظهر أبوبكر البغدادى فى «شريطه المصور»، يوم الإثنين الماضى، ليصحح ويقدم معلومة جديدة وهى أن عمليات سريلانكا لا شأن لها بمسلمى نيوزيلندا من قريب أو بعيد ولم ترد بتفكيره، ولكنها رد وثأر لهزيمة التنظيم فى «معركة الباغوز» آخر معاقل الإرهابيين فى سوريا الشقيقة.

للمتطرفين والإرهابيين منطقهم الخاص، وعلينا أن نفهم مفرداتهم وآليات التفكير عندهم، كى نتمكن من إدراك ما يريدون وننجح فى مواجهتهم. التفكير العقلانى والإنسانى لن يقبل أن يُحاسب مواطن مسيحى فى سريلانكا عن معركة هُزم فيها الإرهابيون فى الباغوز، خاصة أن الطرف الرئيسى فى القتال بتلك المعركة كان قوامه مقاتلين مسلمين، أى المعركة بين معسكرين كل منهما لديه مفهوم وتصور مختلف للإسلام، وكل منهما له مصالحه الخاصة، لكن المنطق الإرهابى، إن كان لهم منطق، لا يسير وفق قواعدنا نحن.


.. فالعنصرية والإرهاب والتطرف لها منطقها الخاص، وإلا ما شأن مصلون مسلمون فى نيوزيلندا بالمجازر العثمانية فى أوروبا خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر؟!

ولو درس ذلك العنصرى الاسترالى التاريخ العثمانى لاكتشف أن معاناة أجداد المسلمين الذين قتلهم من ظلم واستبداد وفساد الولاة العثمانيين لا تقل عن معاناة الأوروبيين، حاصر العثمانيون «فيينا» ولكنهم ارتدوا عنها، أما القاهرة فقد اجتاحوها سنة 1517 واستباحوها، وسرقوا حتى منابر المساجد الكبرى وأعمدتها الرخامية وقتلوا حوالى عشرة آلاف مصرى فى تلك العملية داخل القاهرة وحدها، وشنقوا سلطان مصر «طومان باى» على باب زويلة.

وطوال التاريخ تقوم الحروب، وينتصر فيها طرف وينهزم آخر، أو يلتقى الطرفان فى منتصف الطريق بالتفاوض، إذا لم يحقق طرف انتصاراً كاملاً، وللحرب عادة هدف محدد، يرسمه الطرف الذى يبدأ الحرب أو يشنها، وقد يتحقق الهدف دون شن الحرب، حالة نبى الإسلام فى «صلح الحديبية» تصلح نموذجاً لذلك، فالحرب والقتال لا يمكن أن يكون مقصوداً لذاته وبذاته، بغض النظر عن أى هدف آخر، لكن يبدو أن المسألة لدى البغدادى وجماعته مختلفة، هو تحدث بصراحة قائلا: «إن الله لم يأمرنا بالنصر، ولكن أمرنا بالجهاد»، وهكذا لا يصبح تحقيق النصر هدفا ولا تعتبر الهزيمة كارثة تستوجب إعادة النظر فى جدوى القتال، بل الهدف هو الحرب ذاتها، ولذا فإن البغدادى هُزم فى سوريا، وطُرد من العراق، هذا لا يعنى لديه شىء كبير، ذهب إلى منطقة أخرى وقام بعمليات جديدة، وهكذا تبدو المعركة بلا نهاية، لأنها بلا هدف، سوى التدمير والثأر والانتقام.

حديث البغدادى يقدم للكثيرين أضواء كاشفة على تفكير وسلوك جماعة الإخوان وما تقوم به إلى اليوم، باعتباره إخوانى الأصل والهوية، تشرب بأفكارها وسلك مسلكها، كثيرون تصوروا أنه بعد الهزيمة الضارية للجماعة فى ثورة 30 يونيو 2013، أنها سوف تعيد النظر فى كثير من أفكارها وسلوكها وممارساتها، وأنها قد تبدى الندم وتقدم اعتذاراً للشعب المصرى عما اقترفته من جرائم فى حق المصريين، لكنها ازدادت سوءاً، ومن يقم بأى مراجعة منهم لأداء الجماعة خلال فترة حكمها مصر فإنه يلوم قياداتها أنهم لم يعصفوا أكثر بمعارضيهم.

والبعض يتصور كذلك أن الجماعة سوف تتغير بعد إجراء الاستفتاء على الدستور، الذى تم الأسبوع الماضى، وعملية تعديل الدستور ثم الاستفتاء ونتائج ذلك الاستفتاء تقول إن الجماعة باتت خارج المشهد، وإن الذين أيدوا الاستفتاء ومن عارضوه فعلوا ذلك على أرضية الدولة المدنية والمشروع الوطنى، وهم لا يستوعبون ذلك ولن يستوعبوه، لأن القضية عندهم، مثل البغدادى، ليست انتصارا وهزيمة وليست وطنا (ودولة) وليست تداول سلطة، بل هى القتال والكراهية لذاتها، التى تُفشل تجربتهم فى مصر، لا ضمير لديهم، يهاجرون من مصر إلى قطر وإلى تركيا، وإذا لفظتهم هذه أو تلك هناك ماليزيا وإندونيسيا وبعض بلدان إفريقيا أو إلى بلد أوروبى والارتباط بسيدة أوروبية تتيح له الحصول على الإقامة... وهكذا، والأموال دائما جاهزة وموجودة، المهم لديهم أن تظل عملية القتال والعنف والإرهاب.

وقد يندهش المرء أن هذه الجماعة على مدى عقود طويلة لا تتطور أفكارها وأساليبها إلا فى مجال العنف والإرهاب، النقلة من حسن البنا إلى سيد قطب ومن قطب إلى صالح سرية ثم شكرى مصطفى ومحمد عبدالسلام فرج وصولا إلى أيمن الظواهرى وأسامة بن لادن ثم الزرقاوى والبغدادى، كانت فى آليات ومستويات العنف والقتل وليس فى أى شىء آخر.

تأمل تجربة سيد قطب تحديدا، يفرج عنه سنة 1964 فى عفو صحى، فيكون أول ما يفعله تشكيل تنظيم سرى لاغتيال عبدالناصر وكبار رجال الدولة والتفكير فى تفجير القناطر الخيرية لإغراق الدلتا، انتقاما من المصريين لأنهم يؤيدون ويحبون عبدالناصر.

الجماعة تتحدث عن الدعوة والدعاة ومعركتهم مع الشرك والكفر، ولا تتحدث عن تنافس سياسى أبدا، والبغدادى يتحدث عن معركة «الإسلام وأهله» مع «الصليب وأهله»، فى مثل هذه الخطابات لا حديث عن المواطن والإنسان ولا عن الشعوب وحقوقها واحتياجاتها، خطاب عن مطلقات وفى المطلق وليس خطابا إنسانيا، إنه يذكرنا بخطاب هتلر ومشروعه النازى.

جماعة الإخوان تحاول أحيانا أن تقدم خطابا يخفى الشر فى ثناياه وتجده وراء السطور وبين الحروف، أما البغدادى فكلماته صريحة ومباشرة وأيضا كاشفة.

وقد لا يكون ذلك جديدا علينا، لكن الجديد أن المعركة مع الإرهاب امتدت حول العالم، لأنهم يريدونها حربا دائمة.. لاحظ أن البغدادى والجماعة أيضا لم يأتيا على أى شىء بخصوص القدس والأقصى وصفقة القرن و.. و..، هذا كله لا يعنيهما.

قارن هذه الجماعة بكل تنظيماتها مع الثوار والمقاتلين فى فيتنام ومع ثورة سنة 1954، سوف نجد أن العملية فى فيتنام والجزائر انتهت بالاستقلال والتحرير وتحول المقاتلون إلى بناء الدولة والمجتمع، بينما صارت الجماعة إرهابية تفرخ إرهابيين حول العالم.

 

التعليقات