الكلام إلهي والأذن إنسانية؟

كان القاضى والفقيه عبدالرحمن بن خلدون فى دمشق حين اجتاحها «تيمورلنك» ذهب إلى هناك قادما من القاهرة فى صحبة سلطان المماليك، كان السلطان خرج من القاهرة ليواجه تيمور ويمنعه من دخول دمشق، وكانت العادة أن يصطحب السلطان معه قضاة وفقهاء المذاهب الأربعة، وما إن وصل السلطان إلى بلاد الشام حتى ترامى إلى علمه ما يدبره له المماليك فى القاهرة، فعاد من فوره ليؤمن العاصمة وترك العلماء والقضاة هناك، وكان ابن خلدون واحداً منهم. انتهز تيمور فرصة عودة السلطان إلى القاهرة وسارع إلى اجتياح مدينة دمشق وتدمير كل ما فيها. وحدث اللقاء بين ابن خلدون وتيمور على النحو الذى رواه الأول فى رحلته أو سيرته الذاتية التى نشرت تحت عنوان «التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا» ونشرها فى القاهرة سنة 1951 محمد بن تاويت الطنجى.

وكان تيمور قد استباح دمشق وترك جنوده يعيثون فيها إحراقاً وتدميراً وهتكًا للأعراض، أعراض الصبيان قبل النساء والفتيات، ما جرى كان يفوق أى خيال سوداوى، وأمام بشاعة ما جرى نسى كثيرون أن «تيمورلنك» كان مسلما، ولكن ابن خلدون كان متذكرا، لذا راح يذكر له آيات القرآن الكريم التى تحض على العفو عند المقدرة وعلى الرأفة والإحسان، وغير ذلك من المعانى النبيلة الواردة فى كتاب الله، وتصلح لهذا الموقف، ويذكر أحد الذين أرّخوا لتيمور أنه أنصت جيدا لما نقله إليه المترجم من حديث ابن خلدون، وتركه حتى أفضى إليه بكل ما يريد، ثم قال له «الكلام إلهى والأذن إنسانية» أى أن الكلام كلام الله لا جدال فيه ولا يتشكك فيه أحد، لكن المهم فى الأذن التى تستمع إلى هذا الكلام.

باختصار.. كيف نتقبل الكلام الإلهى، وكيف نفهمه، وما مدى انعكاسه على تصرفاتنا وسلوكنا العملى؛ ما أشار إليه «تيمورلنك»، هو تقريبا المعنى الذى انتبه إليه مبكرا فى تاريخ الإسلام على بن أى طالب- كرم الله وجهه- حين قال «القرآن حمّال أوجه»، لقد قتل عثمان بن عفان بادعاء من قاتليه أنه خرج عن القرآن الكريم، وقتل على بن أبى طالب، لأن قاتله عبدالرحمن بن ملجم ومن معه من الخوارج قرروا أنه لم يحتكم إلى الله ولا إلى كتابه، وقبل تحكيم البشر، أى أبوموسى الأشعرى وعمرو بن العاص، وهكذا الحال فى كثير من وقائع القتل الأخرى، كلها تمت بزعم من القتلة بأن المقتول خالف الله سبحانه وتعالى، وحين نتأمل واقعنا نجد أننا بإزاء مجموعات من الإرهابيين يقتلون الأبرياء ويدمرون الحياة ما وسعهم ذلك، ويهتفون «الله أكبر» ويرددون بعض آيات القرآن الكريم؛ بل إننا سمعنا ذات يوم فى يناير سنة 1992 من المستشار مأمون الهضيبى، القيادى بجماعة الإخوان وقتها، ثم مرشدها العام فيما بعد يقول بملء الفم، ردًا على ملاحظات د. فرج فودة حول التنظيم الخاص بجماعة الإخوان، بالقول «لقد كنا نتقرب إلى الله بعمليات هذا التنظيم» وللتذكرة فقط، فإن هذا التنظيم هو الذى اغتال أحمد ماهر ومحمود فهمى النقراشى وسليم زكى والمستشار أحمد الخازندار فى سنوات الأربعينيات، وهو أيضا الذى حاول اغتيال جمال عبدالناصر فى ميدان المنشية بالإسنكدرية سنة 1954ودمر عددا من المؤسسات والمنشآت المملوكة لمواطنين مصريين، هذا التنظيم وإن بمسميات أخرى هو الذى مارس العمليات الإرهابية فى مصر بعد ذلك، اغتالوا الشيخ محمد حسين الذهبى- أعظم من كتب بين علماء الأزهر- فى علم التفسير فى عصرنا الحديث، ثم توالت الجرائم، خاصة منذ 28 يناير 2011 حتى يومنا هذا، فى سيناء وعلى حدودنا الغربية، فضلا عن العمليات الإرهابية التى قاموا بها فى القاهرة والإسكندرية وغيرهما.

وإذا كانت الأذن إنسانية فى نهاية الأمر، يصبح السؤال: كيف نرتقى بهذه الأذن إلى مستوى يقترب من روح النص والكلام الإلهى؟

وهذا يتطلب جهدًا كبيرًا يجب أن يبذل، من العلماء والمتخصصين لتقديم تفسيرات للنصوص الإلهية تتواءم مع قضايا العصر ومع واقعنا وما يكتنفه من مشكلات، ومازلنا نرى إلى اليوم من يقف عند تفسيرات سنية ومفاهيم محددة تعتبر النص الإلهى، وتجعله يبدو وكأنه نزل لعصر غير عصرنا ولأناس غيرنا، وكأنه مطلوب أن نهاجر من واقعنا ونغترب عن عصرنا ونعود إلى قرون سابقة، حيث كان ابن تيمية وابن كثير وغيرهما، فهؤلاء اجتهدوا لزمانهم وقضايا واقعهم، وهى بالتأكيد ليست قضايانا نحن اليوم وزماننا مختلف تماما.

الأمر يتطلب ما هو أكثر من التجديد والاجتهاد، لقد نبه بيان القمة الإسلامية فى مكة- الأسبوع الماضى- إلى خطورة «الإسلاموفوبيا» فى الغرب، وسوف تظل الإسلاموفوبيا تشتد، طالما بقى المتشددون يرفعون أفكار العنف والقتل فى وجه المخالفين، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين.

القضية مطروحة علينا وبإلحاح منذ الحملة الفرنسية على مصر وتتجدد مع كل جيل، لكن بروز المتشددين والإرهابيين جعلها ضرورة حياة ومستقبلا لنا، وما عاد جائزا أن نتباطأ فى التعامل معها.

نحتاج أن نتعامل مع النصوص الإلهية بضمير إنسانى وعقل منفتح؛ فالأديان جاءت لتؤكد إنسانية الإنسان لا أن تسلبها أو تلغيها، وجاءت أيضا لتؤكد معانى الرحمة والرأفة إلى جوار الحرية والعدل، وهذا كله ليس كل شىء، نحتاج كذلك قوانين صارمة، تحول دون شطط البعض الذين يقررون تنفيذ ما يفهمونه وما يرونه فى النصوص الدينية على أفراد المجتمع الآخرين، ويسلبون الدولة اختصاصها ويحاولون أن يكونوا دولة موازية أو بديلة، وهذا يعنى أن نصر على ضرورة وجود دولة مدنية حديثة وقوية، أى دولة تطبق القوانين على الجميع، بلا تمييز.

التعليقات