النظام والفوضى

على مدار 3 سنوات هى كل تاريخ الحملة الفرنسية على مصر ظل أهل المحروسة يحنون إلى العهد السابق لها، أسباب كثيرة كانت تدفعهم إلى ذلك، نتناول منها ما يخص حديثنا عن «أدهم المصرى» ويتعلق بـ«إدخال النظام على حياة فوضوية». فى البيت الكبير -كما يصف نجيب محفوظ- عاش «أدهم» حياة يفعل فيها ما يحلو له، ينام ويستيقظ حين يريد، يلهو ويلعب وقتما يحب، يتمدد على ظهره فى الحديقة الغنَّاء حين تهفو نفسه، يعزف الناى لحظة ما تريد روحه الانتشاء بالنغم. إنها حياة الفراغ التى تخلو من المسئولية التى راقت قطاعاً لا بأس به من المصريين خلال القرن الثامن عشر، حين كانوا يعملون وقتما يشعرون بالحاجة إلى العمل، ويسترخون ويتمددون ويجلسون على المقاهى ويلعبون النرد والشطرنج ويحتسون القهوة ويدخنون ويتعاطون ما تيسر لهم من صنوف المخدرات حين يرغبون.

أوجد الفرنسيون العديد من النظم والعادات الجديدة فى حياة المصريين، مثل النظم الصحية لمواجهة الأمراض المتوطنة خصوصاً الدوسنتاريا والطاعون، أو الإحصاءات السكانية وتسجيل السكان، أو تخطيط الطرق وغير ذلك. هذه النظم الجديدة شكلت نوعاً من الإزعاج للمواطن المصرى وأوجدت أدواراً للحكومة فى حياته لم تكن قائمة قبل ذلك. وقد امتازت الحكومات التى سبقت الفرنسيين بقدر أقل من التدخل فى حياة المواطن، كما يذهب محمد شفيق غربال فى كتابه «محمد على الكبير» ويضيف: «فلا ينبغى إذن أن ننتظر أن يرحب المصريون عام 1798 بالتدخل الحكومى وما يصحبه من النظم الدقيقة، ولا يعدوها ضماناً لحقوقهم، فكرهوا ضبط الدفاتر واعتبروه اشتطاطاً فى الطلب، ولم يروا فيما اتخذته الحكومة من الوسائل لمنع الأمراض إلا استبداداً لا يطاق وفضولاً لا يفهم».

فى سياق ذلك، كان من الطبيعى أن يبتهج «أدهم المصرى» بخروج الفرنسيين من دياره، فناهيك عن أنه تخلص من المحتل، فقد عاد إلى سيرته الأولى وتخلص من عبء النظم التى حاول الفرنسيون فرضها عليه، استقبل الرجال النبأ بالطبول والزمور، والنسوة بالزغاريد، كما يحكى «الجبرتى»، ويضيف: «وفى يوم الأربعاء ارتحل الفرنساوية وأخلوا قصر العينى والروضة والجيزة، فكانت مدة الفرنساوية وتحكمهم فى الديار المصرية ثلاث سنوات وواحداً وعشرين يوماً فإنهم ملكوا البر يوم السبت تاسع عشر صفر سنة 1213هـ، وكان انتقالهم ونزولهم من القلاع وخلو المدينة منهم وانخلاعهم عن التصرف والتحكم ليلة الجمعة الحادى والعشرين من شهر صفر سمة 1216هـ. فسبحان من لا يزول ملكه ولا يتحول سلطانه».

لكن «أدهم المصرى» لم يهنأ بحالة الفوضى التى ضربت مصر خلال الفترة من 1801-1805، إذ أدت حالة الاضطراب الأمنى والاقتصادى إلى خلق فجوة بين حنينه إلى الراحة والواقع المرهق الذى بات يعيش فى ظلاله بسبب ممارسات المماليك والعثمانلية، لكنه لم يكن يدرى أن القدر يخبئ له تحدياً نظامياً جديداً مع الوالى محمد على الذى أصعده الشعب المصرى إلى الحكم بيده وفرضه فرضاً على السلطنة.

التعليقات