جامعاتنا والدراسات القبطية

شرعت جامعة دمنهور فى اتخاذ الإجراءات الإدارية والعلمية لتأسيس معهد الدراسات القبطية، ومن المفترض أنه سوف يكون مخصصا لطلاب الدراسات العليا ويمنح درجات الدبلوم والماجستير ثم الدكتوراه؛ والواضح حتى الآن أن جامعة دمنهور تسير فى هذا الأمر، على خطى جامعة الإسكندرية؛ والعلاقة قوية بين الجامعتين ليس- فقط - بسبب القرب الجغرافى أو المكانى، بل لأن جامعة دمنهور بدأت بالأساس فرعا لجامعة الإسكندرية.

جامعة الإسكندرية كانت الأسبق، واتخذت نفس الإجراءات من نوفمبر 2010 وبعدها تم تأسيس معهد الدراسات القبطية؛ ولد المعهد فى صمت تام وبلا أى إعلام، بل إن المعهد فى حدود علمى لا يعقد مؤتمرا علميا سنويا؛ كما هو التقليد الأكاديمى فى معظم الكليات والجامعات؛ غير أن جامعة الإسكندرية؛ التى منح معهدها العام الماضى أول دكتواره، حققت سبقا علميًا، على مستوى الجامعات المصرية- باستثناء الجامعة الأمريكية فى القاهرة- وأسست المعهد الذى طالما نادينا، وطالبنا الجامعات المصرية بالاهتمام بهذا التخصص العلمى الدراسات القبطية.

والحق أن هذا الاهتمام ضرورة أكاديمية وضرورة وطنية؛ أكاديميا لم يكن يليق أن يغيب عن جامعاتنا دراسة القبطيات؛ بينما هى تدرس فى معظم جامعات العالم الكبرى؛ وقد كان صعبا علينا أن نقرأ عن التراث المصرى، من خلال دراسات الأجانب؛ حدث هذا كثيرا بالنسبة لعلم المصريات ودراسة حضارتنا القديمة؛ وكذلك بالنسبة للمرحلة القبطية؛ مثلاً دراسة فرنسية جرت منذ سنوات عن طعام المصريين؛ تثبت أن وجبة الفول والطعمية التى يعيش معظمنا عليها إلى اليوم، انتشرت فى مصر بعد أن دخلتها المسيحية؛ ذلك أن المسيحى المصرى كان يصوم طويلاً، وكان لا بد من اكتشاف وجبة طعام تلبى شروط الصيام المسيحية، فكانت وجبة الفول؛ التى ما زلنا نقبل عليها؛ حتى أننى كتبت وقتها إن عربات الفول والطعمية، هى أحد عناوين الوحدة الوطنية فى مصر.

وحتى لا نسرف على أنفسنا، ولا نغمط السابقين حقهم؛ كانت الجامعات المصرية تولى اهتماما بالدراسات القبطية؛ لكن لم يكن لها تخصص أو فرع مستقل بها؛ كان يمكن أن تدرس ضمن تاريخ مصر الرومانية أو فى أقسام الآثار باعتبارها جزء ضمن الآثار الرومانية والبيزنطية.. وكان هناك شعور لدى الأكاديميين القدامى بضرورة استحداث هذا التخصص؛ د. طه حسين لفت الانتباه إلى ذلك فى كتابه مستقبل الثقافة المصرية سنة 1938؛ د. مراد كامل له دراسة عن الحضارة المصرية فى العصر القبطى وهكذا؛ ويبعد عن الجانب الأكاديمى كانت هناك محاولات لكتاب ومثقفين كبار مثل د. حسين فوزى وصبحى وحيدة، أولئك الذين اهتموا بدراسة الشخصية المصرية وتطور مصر؛ لكننا كنا نطمح إلى أن يدخل هذا التخصص ضمن البرامج الأكاديمية والتعليمية بالجامعات المصرية؛ وها هو يتحقق.

وطنيا فإن تجاهل، حتى وإن كان غير مقصود؛ مرحلة مهمة فى تاريخنا؛ تقدر بحوالى ستة قرون؛ هو خطأ بحق الذاكرة الوطنية المصرية؛ لأنها مرحلة مهمة وخصبة فى التاريخ المصرى والإنسانى كله؛ وقد يتصور البعض أن هذه المرحلة ليست سوى فترة عابرة أو انتقالية بين مصر الفرعونية ومصر الإسلامية؛ لكنها أعمق من ذلك بكثير؛ إذ تثبت تمسك المصرى بأرضه وبلده؛ لقد اضطُهد المسيحيون المصريون من الرومان، وتحملوا بجلد وصبر، وقاوموا؛ لكن لم يفكروا فى الهجرة وركوب أول راحلة، وهى تثبت مدى الخصوصية المصرية؛ حتى فى التعامل مع دين الله؛ ذلك أن مصر اختطت لنفسها طريقا خاصا فى المسيحية؛ بات يعرف بها وتعرف به وهو الأرثوذكسية؛ وسوف يتكرر ذلك بالنسبة للإسلام حين اختط المصريون لأنفسهم الإسلام المصرى، أى إسلام التسامح والاعتدال ورفض الانخراط فى المذهبية المقيتة.

وفضلا عن ذلك فإن البعض تصور أن المرحلة القبطية فى التاريخ المصرى هى شأن كنسى أولا وأخيرا، والحق أنها شأن مصرى بالتمام والكمال؛ ونحن نريد بل يجب لنا دراسة هذه المرحلة جيداً، صحيح أن هناك بعض المصادر التى تؤرخ لآباء الكنيسة وما قام به كل منهم، وقد وجد بعضها اهتماما فى العقود الأخيرة بالنشر العلمى، مثل كتاب ساويرس بن المقفع وغيره؛ ونحن نريد ليس فقط تاريخ آباء الكنيسة؛ بل تاريخ الشعب المصرى كله ومدى صلابته وتعامله مع الأزمات والصعاب.

والحق أن فترات الاحتدام الطائفى التى مرت بنا فى العقود الأخيرة، تحديدا منذ حادث الخانكة سنة 1972؛ كشفت أن لدينا قصورا علميا ومعرفيا بالمرحلة القبطية فى تاريخنا، وأن هذا القصور كان أحد أسباب تفاقم الأزمات؛ والذى عزف عليه المتطرفون من جماعة الإخوان الإرهابية؛ ولو أن هذه المعرفة متوفرة وبينة للكثير لسقطت كثير من ذرائع وحجج المتشددين.

وسوف نجد أن هناك خيوطا مصرية ممتدة منذ العصر الفرعونى، مرورا بالعصر القبطى ثم الإسلامى وحتى يومنا هذا؛ مثل مبدأ التوحيد ومثل رهبة الموت واحترامه؛ وغير ذلك كثير.

عقب تأسيس معهد الإسكندرية؛ قامت مكتبة الإسكندرية بتأسيس مركز للدراسات القبطية؛ سنة 2013؛ وهو مركز يهتم بنشر نصوص التراث والوثائق القبطية ويعقد مؤتمرات علمية وثقافية فى هذا المجال؛ بعضها تم بالتعاون مع الأزهر الشريف وبالتنسيق مع الكنيسة المصرية؛ المركز ينشر رسائل علمية محكمة؛ وهو واحد من عدة مراكز أكاديمية بالمكتبة العريقة.

وهناك بعض المجالات يجب ألا تترك للاهتمام الثقافى الحر فقط والمشاركات الصحفية والسياسية على أهميتها، ولا بد للجامعات أن تقتحمها بالدراسة العلمية الرصينة وبالمعايير الأكاديمية ونزاهة البحث؛ تجنبا للانحياز السياسى والأهواء الفردية، خاصة فى المجالات التى ترتبط بالمشاعر تحديدا؛ ولذا فإن جامعتى الإسكندرية ودمنهور تستحقان تقديرا خاصا لإدراك القائمين على كل منهما بالاحتياج العلمى والمعرفى الذى يجب أن يُغطى؛ وتنوير المجتمع كله بتراثه وتاريخه.. خاصة أن الدراسات الأنثروبولوجية أثبتت أن أكثر من 88% من المصريين الحاليين هم من أصول مصرية قديمة؛ أى أننا ابناء الفراعنة وديانة آمون وأبناء المسيحيين الأوائل..

أما وأن معهد جامعة دمنهور مازال قيد التأسيس فمن حقنا أن نتساءل: هل سيكون ذلك المعهد نسخة مكررة من جامعة الإسكندرية؛ على غرار كليات ومعاهد وأقسام الإعلام فى مصر؛ التى جاءت معظمها نسخا مكررة من إعلام القاهرة؛ فلم تقدم إضافة نوعية وأكاديمية؛ واكتفت بالإضافة الكمية لأعداد الخرجين، أم أن المعهد والقائمين على جامعة دمنهور لديهم رغبة فى الإضافة والتجديد؛ ومن ثم يمكنهم الاهتمام بجوانب أخرى لم يلتفت إليها معهد الإسكندرية؟!

وأتصور أن هناك ما يمكن أن تضيفه جامعة دمنهور؛ وأنها بالتعاون مع جامعة الإسكندرية؛ الجامعة الأم بالنسبة لها، وكذلك مع مكتبة الإسكندرية؛ ومع دار الكتب المصرية، بما تضمه من مخطوطات ووثائق، يمكن أن تضيف لنا الكثير، خاصة أننا بدأنا الاهتمام بمسار العائلة المقدسة فى مصر، والمواقع التى شهدت السيد المسيح طفلاً؛ ويحب ألا يكون هذا المسار مجرد مزار سياحى وحج فقط؛ يجب أن يصاحبه اهتمام ودرس علمى وأكاديمى.

 

التعليقات