هنا عاش حمار!!

شاءت سيارتى أن تتجه مرة أخرى نحو مقر مكتبى القديم بجريدة الأهرام.. مرت من هذا الشارع الضيق الذى يصلك إلى المبنى الحديث للأهرام من الخلف.. كنت سعيدة لأننى اعتدت هذا الطريق لأكثر من 30 عامًا، وهو ما أعاد الكثير من الذكريات والتفاصيل التى كنت ألتقطها فى هذا الشارع الصغير، وكان أهمها هذا الحمار، الذى يقف وحيدًا على ناصية هذا الشارع صباح كل يوم حتى المساء منه.

نشأت علاقة بينى وبين الحمار، وأصبح كلانا يتبادل النظرات، حتى ولو لثوانٍ معدودة، عندما تمر سيارتى أمامه أو عندما أضطر إلى الوقوف نتيجة ازدحام الشارع، وهو ما كان يسمح بإطالة النظر إليه، ولهذا أصبحت بينى وبينه لغة أتعمد أن أنقلها إليه.. فعيناه الحزينتان وجسده الهزيل المتكئ على الحائط كانت كفيلة بأن يربط بينى وبينه هذا التعاطف الإنسانى.

استمر هذا الحال عدة سنوات والحمار واقف مكانه!.. لا حراك!.. لا بكاء! ولا اعتراض.. كانت فقط عيناه قادرتين على أن تنقلا إليك ما لا يمكن أن تطبل به ثورة المظلوم! حتى جاء هذا اليوم الذى عصفت فيه الرياح!! بكل ما كان ثابتًا.. قائمًا وباقيًا، فما كان من الحمار إلا أن يتجرأ ويترك مكانه! ويهرول إلى صاحبه الذى أخذ يركله ويضربه حتى يهربا بسرعة خوفًا من هجوم عنيف ظنًا أن هناك مَن جاء يعصف بهما وبرزقهما خارج هذا الشارع الحزين!.

هدأت العاصفة وعادت الحياة مرة أخرى إلى هذا الشارع الكئيب، ولكن الحمار لم يعد، ترك الناصية والمكان خاليًا.. انتظرته وقتها كثيرًا وطويلًا، ولكنه لم يعد، وظلت عيناه الجميلتان الحزينتان لا تفارقاننى أبدًا حتى يومنا هذا..

وها أنا أمر مرة أخرى وأسلك هذا الشارع الملىء بذكريات، بطلها حمار، وربما جاء الوقت أن أدون كلمتين.. وها أنا أكتب:

■ هنا عاش حمار مسكين دفع حياته ثمنًا من أجل حزمة برسيم!.

■ هنا عاش حمار «زعلان» كان يبحث عن حلاوة الحياة ولكن فاته الأوان!.

■ هنا عاش حمار مظلوم بكى وصمت مع مليون مكتوم.

■ وهنا عاش حمار قال: «كلنا فى الهوا سوا يا شطار».

تراجيديا تجسدها نظرات مأساوية صامتة لكائن من المخلوقات شارك الحياة مع أوجاع وآلام الملايين من البشر الذين عاشوا ويعيشون دون أن يشعر بهم أحد.. ونعم الفارق كبير بينهما، ولكننى ربما أردت أن أنقل حجم هذا الحزن العميق.. هذا الحزن الدفين الذى يطول أحيانًا الإنسان والحيوان وكل شىء حولك يتنفس فى صمت! وينتظر مَن يمد له يدًا!.

 

التعليقات