أنْ تكون مسلمًا من المحافظين الجدد.. نقد خليل زاده

في خريف عام 2005 التقيتُ الدكتور أحمد زويل في نيويورك، جلس إلى المائدة المجاورة وجه أمريكي معروف. قلت للدكتور زويل: إنّني أعرف هذه الشخصية. قال لي: إنه روبرت ماكنمارا زميلي في مجلس إدارة إحدى الشركات الكبرى. قلت له: نعم.. إنّه ماكنمارا. كان يجب أن أعرف من تلقاء نفسي. لقد قرأت نظرياته في الأمن القومي، وفي السياسة العامة. ولقد طالعت دوره في أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، والتي كادت أن تؤدي إلى اندلاع الحرب العالمية الثالثة.. وكذلك دوره الشهير في حرب فيتنام.
قال لي الدكتور زويل: تعال أعرفك عليه، فشخصية ماكنمارا في الواقع غير شخصيته في السياسة. تعرّفت بالفعل على  ماكنمارا، سألني عمّا أعمل في أمريكا، وعمّا أعمل في مصر. قلت له: إنني كاتب مصري، وفي زيارة إلى الولايات المتحدة.. وقد قرأت كتابك "جوهر الأمن". قال ماكنمارا: "الأمن القومي أوسع من الاستيعاب، وحين يتولى المرء منصبًا يدرك أن النظريات التي يعرفها وحدها لا تكفي. وحين تمضي السنون يدرك المرء أن رؤيته الواقعية نفسها لم تكن بالضرورة هى الأنسب".
كان وزير الدفاع الأمريكي ماكنمارا واحدًا ممن وقفوا وراء مأساة فيتنام التي أدّت إلى مقتل ستين ألفًا من الأمريكيين، وأربعة ملايين من الفيتناميين. اعترف ماكنمارا فيما بعد بحجم المأساة، وقال في كتابه "استرجاع الأحداث" : "لقد كنّا على خطأ.. كنّا على خطأ جسيم".
لم يكن هذا هو الخطأ الجسيم الوحيد.. فقد كانت الحرب في أفغانستان والعراق نموذجًا آخر للمأساة.  قُتِل في العراق ما يعادل ضحايا (14) قنبلة نووية بحجم هيروشيما، وأصبحت أفغانستان خارج التاريخ.
كان تيار "المحافظون الجدد" في السياسة الأمريكية هو الذي يقف وراء الحرب في أفغانستان والعراق. ومن المثير أن الأشخاص أنفسهم من صقور اليمين ورموز المحافظين الجدد ممّن قاموا بصناعة الموت في تلك الأوقات.. هم من عادوا اليوم لأجل صناعة الحياة. إن الدبلوماسي الأمريكي "المسلم" زلماي خليل زاده هو واحد من هؤلاء. إنه "مبعوث الحرب" فيما قبل، وهو "مبعوث السلام" الآن.
ولد "زلماي خليل زاده" في مدينة مزار الشريف بأفغانستان، وانتقل أثناء الدراسة الثانوية إلى أمريكا، حتى حصل على الدكتوراه من جامعة شيكاغو. كان "خليل زاده" ممّن ساعدوا في الحرب على أفغانستان، ثم أصبح سفيرًا فيها. وكان هو أيضًا ممّن ساعدوا في الحرب على العراق، ثم أصبح سفيرًا لديه. .وقد وصل في العمل الدبلوماسي إلى درجة رفيعة حيث أصبح المندوب الأمريكي في الأمم المتحدة، وحين أراد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تشكيل إدارته كان خليل زاده - بحسب ما نشرت صحيفة نيويورك تايمز - من بين أبرز المرشحين.
كان خليل زاده وراء الحرب في أفغانستان، واليوم هو المبعوث الأمريكي للسلام في أفغانستان في نموذج متكرر لـ"الطريق الدائري" في السياسة الأمريكية. إن السفير زلماي خليل زاده هو صاحب أعلى منصب لشخص مسلم في الإدارات الأمريكية في العقود الأخيرة. ساعد أساتذته المحافظون مثل ريتشارد تشيني وكونداليزا رايس وبول وولفتز.. في دفعه إلى أعلى باستمرار رغم مهاراته المحدودة وثقافته العادية.
جاء نموذج خليل زاده صادمًا لملايين المسلمين الذين يطالعون السياسة الدولية عبر منظور ساذج، يرى في تولي أىّ مسلم لأي منصب سياسي في الغرب دعمًا لقضايا بلادهم ومشكلات أوطانهم. الأمر يشبه أن تقول: إنّ تأسيس ستيف جوبز لشركة آبل يدفع إلى تطوير تكنولوجيا الاتصالات في سوريا، أو أن إدارة زين الدين زيدان لمنتخب فرنسا يساعد في تحسين نتائج مباريات الجزائر.
في تقديري.. فإنّ العكس هو الأقرب إلى الصواب. ذلك أن بعض السياسيين ذوي الأصل العربي أو المسلم في الغرب يتخذون - في العادة - مواقف متطرفة، نظرًا لارتباكهم الفكري، وشعورهم الدائم بالحركة داخل قفص الاتهام. إنهم يعانون ضعفًا نفسيًا كونْهم جاءوا من الهامش ويريدون المزايدة على المركز، ثم إنهم جاءوا من مناطق صار التآمر عليها، والحط من شأنها، وتضخيم أخطارها.. موضع اختبارٍ لابد من اجتيازه لأجل الحصول على الثقة والصعود.
يؤمن الدبلوماسي المسلم بـ"الحرب لأجل أمريكا"، وهو شأن مدرسة ليو شتراوس ومتطرفي جامعة شيكاغو.. لا يعطون فرصة كافية لصوت السلام بدلًا من دويّ الرصاص. لم يكن "خليل زاده" مؤمنًا بالديمقراطية العراقية لأجل العراقيين، وكان رأيه أنه يجب تأسيس ديمقراطية تابعة للولايات المتحدة. إنه يؤمن بالتفكيك التدريجي للدولة الوطنية وتحويل الدول البسيطة إلى دول فيدرالية. وحين تحدث عن سوريا مؤخرًا قال: "لا يهم في سوريا إذا كان النظام فيدراليًا".
ومن المفارقات أن تنظيم داعش كان آخر ما نشأ في عهد خليل زاده بالعراق. وقد اتهم الكاتب "أندرو كوكبرن" خليل زاده بدعم  تأسيس التنظيم: "كل ما نأمله هو ألّا ينسى داعش جميل الرجل الذي كان له الفضل الأكبر في انتصاراته". لا يوجد ما يؤكد تلك الاتهامات. لكن رؤية خليل زاده في ضرورة تأسيس "التحالف الأمريكي الإيراني" تثير الانتباه. كان زاده هو من جاء بالديكتاتور العراقي "نوري المالكي" رئيسًا للوزراء في العراق. ويذكر زاده في كتابه "المبعوث.. من كابل إلى البيت الأبيض" أن أمريكا قد رتبت الخريطة الجديدة مع إيران قبل غزو العراق. واعترف "زاده" بلقائه سفير إيران لدى الأمم المتحدة في جنيف محمد جواد ظريف - الذي صار وزيرًا للخارجية - وأنه رتَّب معه كلَّ شئ.. من حلّ الجيش إلى  اجتثاث البعث، وإفراغ الدولة لصالح إيران.
مؤخرًا.. التقى زاده الملك سلمان والأمير محمد بن سلمان، وبعد أن استمع إلى رؤية المملكة للتحديث، عاد إلى واشنطن محرضًا ضد السعودية بتهمة دعم الإرهاب سابقًا!
يقول البعض إن زاده هو عميل أمريكي، وهو قول مثير للسخرية، ذلك أنَّهُ مسئول أمريكي رفيع المستوى. الأمر يشبه اتهام وزير الخارجية بالعمالة لبلاده. إن خليل زاده هو أمريكي فقط، ولم يعد أفغانيًّا بأىّ حال. لكن المؤسف هو أن هناك الكثير من الأروقة المتوازنة في واشنطن.. كما أن هناك أعدادًا هائلة من المعتدلين وأنصار السلام في أمريكا.. لكن المسلم الذي يحتل أعلى منصب في القوة العظمى ليس واحدًا منهم.

التعليقات