مأزق ترامب!

من تابع الرئيس الأمريكى دونالد ترامب خلال حملته الانتخابية عامى 2015 و2016 سوف يجد الإطار المفهومى، وليس الفكرى، الذى يتحرك من خلاله.

هو بالتأكيد ليس مثقفًا، والأرجح أنه لا يحب المثقفين وهو ليست لديه أيديولوجية، وإنما أجزاء منها كبعض من المحافظة وأحيانا بعض من العنصرية، ونوع من التقديس لمفهوم «الصفقة» التى ألف فيها كتابًا من قبل، وأقام عليها برنامجًا تليفزيونيًا، وكمية من الأساليب العفوية التى استخدمها رؤساء قبله حيث يكون الادعاء بالتهور أو حتى الجنون والتلميح باستخدام أسلحة الدمار الشامل.

ولكن أيًا كانت حدود التفكير لدى الرئيس فإنه نجح تمامًا فى ملء الفضاء العام حتى إن أكثر من 17 مرشحا ديمقراطيا اتفقوا على كراهيته لم ينجحوا فى جذب مركز التأثير منه وهم يتنقلون من مناظرة إلى أخرى، بينما يناقش مجلس نواب الأغلبية الديمقراطية كيفية إدانة ترامب! ولكن ضمن هذه الحالة المواتية بشكل عام لإعادة انتخابه فى نوفمبر القادم فإن الرجل يواجه مأزقًا، إن لم يكن أكثر من مأزق، فى السياسة الخارجية لأنه باستثناء اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك فإنه لم يعقد صفقة أخرى، وحتى بالنسبة لهذه فإن كافة المحللين يتفقون على أنها لم يكن فيها جديد على اتفاقية «النافتا» السابقة عليها اللهم إلا فى توقيعه عليها.

ومع أن ترامب يتصرف بقدر غير قليل من الخيلاء، والاقتصاد الأمريكى فى أحسن حالاته، والبورصة الأمريكية فى أعلى درجاتها، وخصومه متفرقون رغم اتفاقهم عليه، فإنه وقع فى مأزق اتخاذ القرار المتعلق بالخروج أو عدم الخروج من العراق. تفاصيل ذلك سوف نعرضها بعد قليل، ولكن ما يهمنا الآن تسجيل موقف الرئيس من التدخل العسكرى الأمريكى فى دول أخرى؛ وهو موقف سلبى للغاية حيث لا يرى فيه إلا تورطًا، وتعبيرًا عن عدم قدرة سابقيه من الرؤساء على إدارة الصراعات المسلحة وتحويلها إلى حروب لا نهاية لها. وفى رأيه أن الولايات المتحدة لم تنتصر فى حرب منذ الحرب العالمية الثانية.

فالحرب الكورية انتهت بتقسيم كوريا، وها هو النصف الآخر الشمالى لا يزال متمردًا ولا توجد صفقة معه فى الأمد القريب، لا حول السلاح النووى ولا الصواريخ.

حرب فيتنام انتهت كما هو معروف بطرد أمريكا من فيتنام، وحتى حرب الخليج التى انتهت بتحرير الكويت، فإنها انتهت بحرب أخرى فى العراق لا تزال ذيولها قائمة حتى الآن بعد حرب ثالثة ضد «دولة الخلافة» التى لا تزال تتربص وتستعد للعودة مرة أخرى إذا ما خرجت أمريكا من العراق.

وللحق فإن الرئيس الأمريكى لم يتوقف حديثه قط عن رغبته فى الانسحاب من الشرق الأوسط كله، سواء كان ذلك من أفغانستان، أو العراق، أو سوريا؛ وهو لا يكف عن استنكار التورط فى حروب لا نهاية لها.

ولكن المتغيرات التى حدثت فى أعقاب الأزمة الأخيرة مع إيران بعد اغتيال قاسم سليمانى وضعت ترامب وسط مطرقة مواقفه القديمة الخاصة بالانسحاب؛ والفرص المتاحة التى تولدت عن الأزمة.

المأزق بات جليًا عندما طلب البرلمان العراقى من الولايات المتحدة سحب قواتها من العراق. للوهلة الأولى كان ذلك تحقيقًا لأحلام ترامب للخروج من الشرق الأوسط، وينهى حربًا من الحروب التى لا تنتهى، وكان ذلك فى رسالة بعث بها قائد القوات الأمريكية فى بغداد ذكر فيها تأكيدًا لحقوق السيادة العراقية، واستعدادًا لوضع ترتيبات الجلاء الأمريكى. ولكن الرسالة لم تكن موقعة، وسرعان ما جاء ذكر أن الخروج سوف يتطلب قيام العراق بسداد تكاليف القواعد التى أقامتها أمريكا مضافة لها تكاليف حمايتها من دولة الخلافة الإسلامية.

الواضح أنه كان هناك مأزق عراقى على الجانب الآخر، وليس هذا مجال للحديث فيه، ولكن المأزق الأمريكى هو الأكثر أهمية لأنه يدور بين تصورات ترامب القديمة والتطورات التى أفرزها التواجد الأمريكى فى العراق وعلاقته بالمواجهة مع إيران التى رغم خفوتها إلا أن فرصًا جديدة لاحت فيها تغرى ربما بالتخلص من النظام الإيرانى كله. ما حدث هو أن سقوط الطائرة الأوكرانية وعلى متنها إيرانيون كثر مصاحبون لركاب عدة دول بإجمالى 176 راكبًا ولّد رد فعل غاضبًا لدى الجماهير الإيرانية يبدو كما لو كان حراكًا جديدًا ينضم إلى حراكات سابقة. فهل حانت اللحظة أخيرًا لكى يتطور الحراك إلى ثورة يباركها ترامب كما فعل فى واحدة من تغريداته، أم أن تصور ذلك سوف يقود إلى التورط الذى لا يخرج منه أحد، والذى كان يخشاه قبل وبعد وصوله إلى البيت الأبيض؟

التعليقات