الحياة فوق "جبل الرمل"

يترك كثيرون الماضي مكومـًا خلفهم، مثل جرائد عتيقة لن يقرأها أحدٌ ثانيةً..

لكن رندا شعث لم تفعل!

تمامـًا كما الصور، تسيل التفاصيل من كتابها "جبل الرمل" (الكرمة، 2020) وحكاياته التي تقطر عذوبة؛ لتنسج حياة كاتبةٍ ومصورة بين فلسفة العصمة والخطأ.

"جبل الرمل" هو سيرة حياة عاطفية مؤثرة عن العائلة والزواج والعمل أثناء حقبة مضطربة في العالم العربي، مليئة بشخصيات لا تُنسى، وحكايات دافئة وصريحة، وذكريات تلمس كل قارئ، مطعمة بصور جميلة التقطتها عينٌ حساسة ومبدعة.

يبدو الأمر كما لو أن مؤلفة الكتاب، المصورة الفوتوغرافية المرموقة رندة شعث، تقول لنفسها وللآخرين: مالي ولسنوات العالم الذي يخذلني على الدوام؟! أعوامي من الآن تعرف أين تدور ‏وكيف تميل كواكبها.

المؤلفة هنا امرأةٌ على قدر كبير من الثقافة، تتمتع بذاكرة حادة، تنتقل بنعومة من العام للخاص، ومن الماضي للحاضر.

ولأن الكلمات خرائط القلوب، والصور قصيدةٌ كاملة، تقول رندا شعث في هذا الكتاب: "كتابتي وصوَري، بل حياتي كلها، كانت لها علاقة وثيقة بمحاولتي اليائسة أن أكون داخل المكان تمامًا. أظن أنها عقدة الإنسان المهدَّد دائمًا بالطرد: من البلد، من المكان، وحتى من قلوب الناس".

اختارت المؤلفة عنوانـًا يشير إلى ذكريات الطفولة، وتعني به ذلك الجبل الرملي الذي كانت عربة العائلة تتوقف عنده في الإسكندرية، خلال رحلة الأعياد والعُطل الرسمية وإجازة الصيف. تقول:

"نصل إلى المندرة، تتوقف العربة أسفل الجبل الرملي، بعد الانعطاف يمينـًا من شارع أبو قير عند جامع سيدي كمال. نرى رأس النخلة الزغلول. أسباطها محملة وجاهزة للتنزيل. البيت في قمة الجبل" (ص 9).

تضيف في موضعٍ آخر:

"في المندرة أصحو قبل الجميع، وأخرج من الباب البحري متجهة إلى جبل الرمل. أمارس هواية غرز قدميَّ وساقيَّ النحيلتين في رماله البيضاء الناعمة، التي تكون باردة صباحـًا وملمسها طري "حنيِّن" (ص 16).

ابنة العاصفة. هذا ما ترويه لنا رندا شعث في كتابها؛ إذ تقول:

"ولدتُ في أمريكا وسط عاصفةٍ ثلجية، كان أبي يحضِّرُ رسالة الدكتوراه هناك. حكى أنه حين بدأ "طلق" أمي، عجز هو عن إزالة الثلوج عن سيارته أو التحرك في أي اتجاه بأي وسيلة مواصلات. اضطر إلى طلب الشرطة كي يحمل أمي إلى المستشفى. كانت قد فقدت ماءها كله واضطروا إلى سحبي بالملاقط، ما أدى إلى التواء بسيط في عمودي الفقري سبَّب لي أوجاعًا في الظهر إلى اليوم

"عاد والدي من أمريكا في منتصف الستينيات، حاملًا شهادة دكتوراه في الاقتصاد، وطفلة في الثالثة والنصف تفهم العربية ولا تتحدثها، لكن لها مكانة الحفيدة الأولى في العائلتين (عائلة أمي المصرية وعائلة أبي الفلسطينية). مكثنا في بيت جدي وجدتي لأبي، علي وسميحة، أقل من عام في وابور المياه بالإسكندرية. حملت أمي سريعـًا بأخي علي. بولادة أخي علي، وريث العرش وحامل اسم جدِّه، فقدتُ كل امتيازاتي كحفيدةٍ أولى" (ص 14).

عن طفولتها الباكرة، تحكي رندا: "أبتسمُ للجارة الشابة. بين شباكها وشرفتنا مسافة ثلاث أذرع، لا تكفي للتلامس ولكنها كافية لتصل إليَّ الحلوى التي ترميها لي عبرها. أحبُّ "لعبة الشرفة" كثيرًا. ألتقط الحلوى بمهارة وآكلها بسرعة" (ص 11).

العلاقة مع الأب لها سحرها الخاص؛ إذ تروي رندا:

"يومـًا أخذني إلى مدينة الملاهي. في أول لعبة وقع حادث وانكسرت الأرجوحة الكبيرة. ارتطم رأسي بلوحٍ خشبي ممتلئ بالمسامير. أصيب أبي بالذعر من نافورة الدم التي غطت وجهي الصغير، فحملني وركض باحثًا عن مركز إسعاف. لم يضايقني سوى أني كنتُ أريد الذهاب إلى الحمام. أبي يدور بي يسأل عن أقرب مستوصف وأنا أبكي؛ لأنني محصورة. أخيرًا توقف عند شجرة وسمح لي بقضاء حاجتي خلفها. احتاج رأسي إلى أربع غرز. أعجبني الشريط الملفوف حوله. أضفتُ على جانبه ريشة عصفور، وادعيتُ لأيام أنني هنية حمراء. بقيت ندبة صغيرة أعلى جبيني حتى اليوم" (ص 12).

حتى جدتها لأبيها، لها نصيبٌ من سيرة الحنان:

جدتي سميحة تغني لي أهازيج طفولتها في لبنان: "زيت زيت يا حاجة لنطعمي رندا عجة"، و"كبيبة يا كبيبة إن شا الله تضلي طيبة". تدغدغني وهي تثني أصابعي وتخيرني بين "القرقة والصيصان". تحممني قبل النوم وتشجو موالًا طويلًا، حزينـًا: "غريبة يا غريبة". تسكب الماء الدافئ على جسدي من طاسة فضية مزخرفة جاءت من الحجاز، وتردد كل ليلة سيرة بنت تاهت عن أهلها وصارت غريبة في البلاد" (ص 15).

في فترة الإقامة في لبنان، اكتسبت رندا خبراتٍ جديدة، من الجنازات والمخابئ وأصوات الأسلحة المختلفة والتنقل بين بيوت الأقارب وصولًا إلى الحارس المسلح. "تُركت حرية الاختيار لأبي في تكملته رحلة الاختفاء من بيتنا. بابا عاد معنا إلى البيت، ومن يومها أصبح لدينا شخص غريب يشاركنا في المنزل، حارس ضخم ينام والكلاشنكوف على ذراعه، اسمه سليمان. كنتُ أخاف منه أكثر من خوفي من المجهول الذي يهددنا. منذ ذلك اليوم وحتى اليوم، لم ننم في بيتٍ مع أبي من دون حارس" (ص 29).

تحتشد الذكريات لتجتاح رندا.

"في علبة بنفسجية صغيرة مزينة بزهور جاردينيا مطبوعة، خبأتُ بعناية، بعيدًا عن الأعين المتطفلة، رموز ما تبقى من ذكريات طفولتي: ورقة صغيرة بها عنوان ناقص، قطعة لبان أعطاني إياها صالح ابن الجيران، خاتم فضي رفيع كان لصديقاتي الثلاث دينا وهدى وليلى مثله في البناية التي أسكنها، رسائل طفولة تبادلناها نحن الأربعة؛ لنؤكد أننا نحب بعضنا بعضًا وأننا لن نفترق أبدًا، خصلة شعر بنية لصديقتي دينا بادلتها بأخرى سوداء من شعري، سوار معدني مكسور كان يخص جدة زميلتي كارون في المدرسة، بعض الصور.

"لم يخطر ببالي أن يصبح هذا الصندوق كل ما تبقى لي من سنوات طفولتي في بيروت. باستثناء ذكريات تومض في خيالي من حينٍ إلى آخر وتظهر لي أحلامـًا" (ص 30).

"وطني على مرمى حجر" كان عنوان كتابها الأول. صدر كتابها المصور في عام 1989؛ ليقدِّم شهادة موثقة عن الحياة في مخيم كندا للاجئين الفلسطينيين. غير أن الحياة الشخصية مرت بحواجز وعقبات ومحن كثيرة، منها رحيل الأم في حادث سيارة، وهو الحادث الذي لم تُشف منه رندا، لدرجة أنها قفزت فوقه بسطر واحد، يدل على عمق الألم.

"أشعر بالوحدة في مدينة يسكنها الملايين. أتحمل مسؤولية بيتٍ كبير، أبي رجل مسؤول وضيوفه متنوعون وكثيرًا ما يجتمعون في المنزل، وصبيَّان أحدهما مراهق صغير غاضب لموت أمه مبكرًا، والآخر مراهق كبير يميل إلى الصمت والحدة. أنا لستُ زوجته ولا أمهما، بل الابنة الوحيدة والأخت الكبرى" (ص 56).

في زمنٍ آخر، تنمو شجرة العائلة، وتمتد الفروع.

"ودَّع بيتنا سكانه واحدًا تلو الآخر. تزوج علي ودينا وسافرا إلى هولندا للدراسات العليا، تزوج رامي ونهال وسافرا إلى لندن أيضًا للدراسة. أبي عاد إلى غزة، وتزوج هناك بعد عشر سنوات من موت أمي" (ص 84).

الصورة هي الخلاص.

"أهداني أبي كاميرتي الأولى وأنا في الثامنة" و"حين أصررتُ، بعد انتهاء الثانوية، على أن أدرس التصوير، أقنعني أن تكوين خلفية ثقافية وتاريخية مهم للمصور، أهم من تعلم التقنيات" (ص 57)

الفتاة التي تقول عن نفسها "أحبُّ المشي والتوهان في شوارع أكتشفها لأول مرة"، تعترف: "يتركُ فيَّ لقاء الناس والاستماع إلى قصصهم –كيف عاشوا وكيف تغلبوا على المصاعب- صدى، وأجد فيما يقولونه علاقة ما بحياتي. تلهمني تفاصيل الحياة اليومية، وأجد فيها سحرًا وحكمة. وكوني مصورة حدةٌ عظيمة لممارسة التوهان" (ص 57).

هكذا شكَّلت أعمال رندا شعث المميزة، التصوير الفوتوغرافي في العالم العربي في الأعوام الثلاثين الماضية، وحدَّدت كيف نتذكر عديدًا من الشخصيات الثقافية والمدن العربية والأحداث السياسية المهمة.

وخلف العدسة، كما في خصاص الشبابيك المغلقة، عيونٌ تنتظر.

التعليقات