في انتظار يوم القيامة!

العالم بعد كورونا لن يكون هو عالم ما قبل كورونا!
هذا ما يكرره يوميًا علماء اجتماع وخبراء اقتصاد، وهم يتابعون مشاهد الخوف والهلع الذى يجتاح العالم بسبب الانتشار المخيف لفيروس كوفيد 19 المعروف باسم كورونا، الذى تسبب في تساقط آلاف الضحايا حول العالم.. فما هو شكل العالم ما بعد الكارثة؟.. وهل تصبح الكرة الأرضية أفضل حالًا.. أم أكثر سوءًا؟!
للأسف تاريخ الكوارث الكونية يحمل لنا إجابات غير مبشرة!
وقد شهد العالم في أوائل القرن الماضى ( ١٩٢٠ )، ظهور الجد الأكبر للإنفلونزا الوبائية، وهى الإنفلونزا الإسبانية، التى كانت أخطر وباء من نوعه عرفه العالم في ذلك الوقت حيث حصدت أرواح ٢٠ مليون إنسان في أوروبا والأمريكتين وأجزاء أخرى من العالم، وكان السبب الرئيسى في وفاة هذا العدد الهائل هو السبب نفسه الذى يعانى منه العالم الآن، وهو عدم العثور في وقت مبكر على العلاج المناسب لوقف انتشار الفيروس.
وفى أعقاب الكارثة، وبعد أن انقشع غبارها بسنوات قليلة شهد العالم بداية النهاية للحقبة الاستعمارية الطويلة الكئيبة، ووقف عملية النهب المنظم الذى مارسته الإمبراطوريات القديمة لثروات شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وبدأت هذه الشعوب تحصل تباعًا على استقلالها السياسى حتى وصلت موجة التحرر الوطنى إلى ذروتها في الخمسينات والستينات.


ولكن.. هل تعلمت القوى الكبرى الدرس وتوقفت عن عمليات النهب والسيطرة على مقدرات الشعوب؟
الإجابة.. بالطبع لا. فقد عادت مرة أخرى أكثر توحشًا بعد أن امتلكت أدوات جديدة وخطيرة بفضل ثورة التكنولوجيا والاتصالات والتطور الصناعى والعسكرى الهائل. وغير طغاة القرن التاسع عشر جلودهم وظهروا في هيئة حديثة وبلغة جديدة مناسبة أكثر للتطور الكبير التعليمى والثقافى الذى حدث لأبناء شعوب المستعمرات القديمة.. حقوق إنسان وديمقراطية.. تعاون عسكرى و"استراتيجى".. إلى آخر البدائل العصرية للاحتلال القديم.
كارثة أخرى.. تغير بعدها العالم للأسوأ
حدثت في أعقاب ما سمى بالكساد الكبير الذى ضرب البورصة الأمريكية عام ١٩٢٩ لتمتد آثاره المدمرة لعشر سنوات عجاف عانى فيها الاقتصاد الغربى كله وتسبب في تشريد وإفقار وبطالة الملايين، وتحولت أمريكا من جنة أحلام المهاجرين إلى كابوس ومرتع للمافيا والمجرمين من كل نوع، وبعد سنوات الأزمة ظهر في أمريكا متوحشون جدد وأثرياء الحرب في ثياب عصرية وعلى هيئة سماسرة ومضاربين ومستثمرين كبار، واختلطت عصابات الجريمة المنظمة برجال السياسة الطموحين بالمعادين للتمدد الشيوعى الذى قاده الاتحاد السوفيتي، لتقف أمريكا أخيرا كقوة عظمى في مواجهة الكتلة السوفيتية الاشتراكية وتتحول في الوقت نفسه لأكبر قوة سياسية واقتصادية في العالم. وبدأ عصر المال الجبار كسلاح جديد للسيطرة واحتلال الشعوب بالديون والمعونات. وعلى الجانب الآخر كان الاتحاد السوفيتى أيضًا يستخدم الأفكار كسلاح خفى للتبعية، وتسابق العملاقان في نشر القواعد العسكرية وإغراء حلفائهما بالأمن والحماية، لينقسم العالم حتى مطلع التسعينات إلى فسطاطين يعيشان على الفتات والمساعدات في الفناء الخلفى للقوتين العظميين.
هذا هو ميراث التاريخ الذى يتركه لنا عادة بعد الكوارث الكبرى،.. أوبئة (طاعون، ملاريا، سارس وغيره من أشكال الفيروسات المتحولة ومنها النسخة الحالية من كورونا)، وأيضا بعد الزلازل والأعاصير والجفاف والمجاعات، فبعد أن تقضى الكوارث على ملايين البشر وتهدد بفناء الحضارة البشرية، يقوم العالم مرة أخرى من تحت أنقاض المأساة ليطور من أدواته ويكتشف العلاج ويتعافى، ومن ثم يفقد الذاكرة وينسى جراحه القديمة ليعود مرة أخرى أكثر قسوة.


ولعل ما تعانيه الكرة الأرضية اليوم من الإخطار الرهيبة للتلوث الصناعى والاحتباس الحرارى وتغير المناخ وشح المياه وتدمير الرقعة الزراعية، هى كلها الثمن الذى يدفعه البشر جراء جشع وطمع الصناعيين والطغاة الجدد، ثم جاءت فوضى التكنولوجيا والآثار السلبية لثورة الاتصالات بمزيد من العزلة والوحدة والأمراض النفسية، وتشرذم الأسر وسيادة ثقافة الأنا وإشاعة روح التقاتل الاجتماعي بديلا عن التنافس الإنسانى المشروع من أجل بناء عالم أفضل!
إن أخطر ما سوف تخلفه أزمة فيروس كورونا، وما نرى بعض مظاهره الآن عندنا وفى دول عديدة، هى الأضرار الاجتماعية المخيفة الناشئة عن انهيار اقتصاديات العالم والخسائر الجنونية التى تضرب الدول والأفراد وتهدد -بحسب التوقعات المتشائمة- بتشريد الملايين وانتشار البطالة بأعداد غير مسبوقة وإفلاس عدد هائل من أصحاب الأعمال المتوسطة والصغيرة، أما الأخطر فهو شبح المجاعات، والذى قد يهدد بعض الدول بسبب توقف آلة الإنتاج ونقص الغذاء. والكارثة الأكبر التى لن يكون لها علاج، إذا ما طالت مدة انتظار العالم لدواء فعال ضد الفيروس، فهى الشروخ الاجتماعية بين الناس وداخل الأسرة الواحدة، وسيادة الإحساس بالغربة والعدمية والشك وعدم اليقين واليأس والإحباط والخوف المرضى من المستقبل، علاوة على اللجوء للغيبيات وتفشى الهوس الدينى والتطرف في كل شيء، وانتشار الخرافة والخزعبلات، وانهيار الإرادة الإنسانية والاستسلام وانتظار معجزة تنقذ البشرية، أو أخيرًا.. انتظار يوم القيامة الذى فتحت بعض قنوات التليفزيون شاشاتها لاستضافة المتحدثين عن علاماته!

عن البوابة نيوز 

التعليقات