حرب ناعمة

واضح أمامنا أن الدولة المصرية مستهدفة منذ سنوات؛ الاستهداف يأتى من بعض الأطراف الإقليمية وفى المنطقة؛ ولا يمكن لذلك الاستهداف أن يستمر ويتواصل دون وجود عناصر أو عنصر محلى؛ يقبل أن يتم توظيفه أو أن يسعى هو لتوظيف طرف أو أكثر ضد الدولة لأغراض خاصة؛ وقد تكون العملية تبادل التوظيف تجاه هدف مشترك هو إضعاف الدولة المصرية إن لم يكن إسقاطها تماماً؛ والطرف المحلى الذى كان على استعداد- تاريخيا- لأن يلعب هذا الدور ضد الدولة هو جماعة الإخوان؛ ولا أظن أننى بذلك أقول جديدا أو أذيع سراً؛ الأمر معروف للكافة فى مصر وفى عدد من البلدان بالمنطقة؛ غير أن الاستهداف تجاه الدولة فى السنوات الأخيرة بلغ حدا من العدوانية والغل تفوق بمراحل على ما واجهناه من أعداء مباشرين فى فترات سابقة من تاريخنا وحياتنا.

ومع ظهور كورونا أو «كوفيد 19» واشتعال الأزمة عالميًّا، تبين أن عداء تلك الأطراف ليس موجهًا نحو الدولة ومؤسساتها الكبرى ولا تجاه نظام الحكم والقائمين عليه، كما زعم بعضهم، بل تجاه المصريين ذاتهم؛ مصر كلها؛ وبدا واضحاً أن هؤلاء يحملون كراهية دفينة وحقدا عميقا تجاه المصريين تحديدا، دون بقية البشر.

نعرف أن «كورونا» تأخر ظهوره فى مصر؛ والحق أن مصر لم تكن وحدها فى ذلك؛ تأخر أيضا فى السودان وليبيا وتونس والجزائر والأردن وسوريا؛ وتأخر فى عموم إفريقيا، ومصر بلد إفريقى؛ باختصار لم تكن مصر متفردة فى عدم ظهور كورونا؛ وبالتأكيد هناك أسباب كثيرة لذلك؛ غير أن تلك الأطراف الكارهة لمصر وللمصريين أقامت الدنيا ولم تقعدها لأن مصر لم تعلن عن ظهور كورونا، وراحوا يجزمون بأن الوباء موجود فى مصر، وأن الدولة لا تمتلك الشفافية للإعلان وليس لديها الإمكانيات لمواجهة ذلك الوباء.

ولأول مرة نرى إعلامًا وساسة يتمنون ظهور وباء فى بلد بعينه ويسعون إلى رؤية أبناء هذا البلد مرضى يتساقطون أمام الوباء بدعوى أن دولتهم غير قادرة على المواجهة، ولم يخجل أى من هؤلاء وهم يصرون بسوداوية حقيقية على تمنى المرض والموت للمصريين.

ولما تكشفت الأمور وتبين أن لا شىء يتم إخفاؤه فى مصر بخصوص كورونا، واتضح حقيقة الموقف بالنسبة لمصر وحقيقته فى دول كبرى ذات إمكانيات ضخمة، لم يفكر أحد منهم فى أن يعتذر ولا أن يصحح معلوماته؛ الاعتذار من شيمة الأسوياء فقط والتصحيح يخص المهمومين بالحقائق ومن يحترمون الحق؛ أما المغرضون فليسوا أسوياء ولا تعنيهم الحقائق؛ الغرض مرض كما تقول الحكمة الشعبية.

اشتعلت الأزمة عالميا؛ وانكشفت دول عديدة وتغيرت الصورة فى العالم كله؛ الصين التى كانت موبوءة تعافت وتجاوزت الأزمة، وانتقل الوباء ليجتاح بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا وإسبانيا، بل وصل إلى الولايات المتحدة ذاتها، وفيما يخص مصر تبين للجميع أن الإصابات- بحمد الله- ليست كبيرة وأن نسبة الشفاء مبشرة والدولة فى وضع استعداد وجاهزة للتعامل بخطط مدروسة؛ لكن هؤلاء لم يتوقفوا؛ إذ ظهرت نغمة أخرى؛ جديدة وبذيئة بحق؛ مفادها أن المصريين مستهترون ولا يقدرون عواقب الأمور وو.. كلمات كثيرة قيلت وعبارات وقحة ترددت؛ لا أريد أن أنقل بعضها؛ فالبذاءة لا يجب أن نكررها؛ وبات مألوفًا أن يتنطع أحدهم ليقول «إخوانا المصريين واخدين الموضوع باستخفاف»؛ وهذه المرة وجدنا بعضنا يردد مثل هذه الكلمات؛ وحين نحلل الذى يقال برمته والمصادر التى يخرج منها؛ لا يمكننا أن نضعه فى مجال الانتقاد ولا إبداء الملاحظات ولا حتى هجاء أو مؤاخذة؛ لكنه أقرب إلى حالة من العنصرية والكراهية البغيضة، ساءهم ألا ينتشر المرض بين المصريين وآلمهم ألا يسقط القتلى بيننا بالآلاف؛ لم يجرؤ أى من هؤلاء على أن يشير- مجرد إشارة- إلى حجم انتشار الوباء فى إيران أو فى تركيا؛ أقول مجرد إشارة وليس محاولة تحليل سر انتشاره السريع هناك.

من يعرف مصر وحياة المصريين يدرك أن تاريخهم شهد الكثير من الأوبئة فى العصر الوسيط والعصر الحديث أيضا، ومن يرد أن يتذكر فليرجع إلى كتاب الفيلسوف والطبيب والرحالة عبداللطيف البغدادى المسمى «الاعتبار بالحوادث الكائنة فى مصر» وكتاب تقى الدين المقريزى «إغاثة الأمة فى كشف الغمة» وكذلك كتابه «السلوك»؛ وغيرها من الكتب، خاصة الحوليات التى تناولت تاريخ مصر فى العصر الإسلامى.

فى عصرنا الحديث يمكن مراجعة الجبرتى وكتابه «عجائب الأسرار»؛ ومن قرأ «أيام» طه حسين وكذلك روايته «شجرة البؤس» سوف يجد صورة لوباء الكوليرا الذى اجتاح مصر سنة 1902 وكيف تعامل معه المصريون؛ وتكرر هذا الوباء مرة ثانية فى سبتمبر 1947، ناهيك عن أمراض أخرى عبرت بنا واجتاحت البلاد فى أوقات معينة مثل الملاريا وغيرها؛ باختصار المصريون ليسوا مستهترين ولا يستخفون بالأزمات، لكنهم لخبرة تاريخية طويلة وعميقة لم يتعاملوا برعب وفزع، ولم يسمحوا للخوف أن يصيبهم بالفشل.

حين ظهر الوباء فى الصين وترددت المعلومات عنه واحتمال حدوث إصابات به هنا؛ لم يتجاهل المواطنون الأمر؛ وظهرت كمية كبيرة من النكات، وحين تظهر النكتة فهذا يعنى أنهم انشغلوا به وتفاعلوا معه؛ ومن يراجع تلك النكات يدرك أنها تكشف عن ثقة بالنفس وقدرة على تخطى الأزمة ومواجهتها؛ كثيرون يدركون أن النكتة وسيلة تعبير مصرية معتمدة عبر التاريخ فى التعامل مع كثير من المواقف والأزمات؛ ومن يتصور أن النكتة دليل استهتار أو استخفاف؛ فإن إدراكه قاصر وحسه الفكاهى والإنسانى ضعيف. أحد فلاسفة السياسة الإنجليز فى القرن التاسع عشر- ذكر أن الفكاهة والدعابة أو النكتة دليل حيوية المجتمع ومدنيته؛ المجتمع المغلق والمكبوت لا يتذوق الفكاهة ولا ينتج نكتة؛ ولما دخلنا فى مرحلة جديدة وتم فرض حظر التجول جزئيا؛ كانت الاستجابة فورية وعامة؛ ولم نجد خروقات كبيرة؛ بعض أفراد هنا وهناك، والآن هناك نكات أخرى حول طول فترة البقاء فى المنزل والتعامل معها؛ لكن هناك من يتنطع ويقول «المصريون مستهترون»؛ لا يستعملون التبعيض ولا يقولون إن هناك بعض الأفراد مستهترون، إنهم يصممون على أن المصريين عموما هكذا، وأن الشخصية المصرية ليست جادة ومستهترة؛ ومن يتطوع ويطلق حكما عاما؛ سلبيا؛ على 100 مليون إنسان؛ ينقصه الكثير من الإدراك والعقل.

والحقيقة أن هذه ليست المرة الأولى التى يهاجَم فيها المصريون على هذا النحو، سمعت بأذنى هجوما على الشعب المصرى كله يوم جنازة الرئيس الراحل حسنى مبارك، وتنطع بعضهم ليسخر من الشعب المصرى الذى عبرت بعض فئات منه عن تأثر وحزن لرحيل رئيسهم السابق.

والحاصل أن هناك «حربًا ناعمة» على مصر والمصريين، تأتى هذه الحرب بعد الفشل فى إغراق مصر بالإرهاب والإرهابيين، الحرب الناعمة قوامها برامج إعلامية، موضوعات صحفية، لجان إلكترونية.. أخبار مفبركة وشائعات كثيرة تتوالد كل ثانية ولا أقول كل دقيقة، وأحكام عنصرية مطلقة بحق مصر والمصريين، كلها شديدة السلبية والسوداوية، حرب تشنها نفس الأطراف التى شنت علينا حرب الإرهاب؛ هم بأسمائهم ومواقفهم المعروفة، والهدف النهائى أن يفقد المصرى ثقته بموسسات الدولة جميعها فتنقلب الحياة إلى فوضى وغابة؛ وأن يفقد المواطن ثقته بكل ما تقوم به الدولة اليوم، بل ما قامت به عبر أكثر من قرنين؛ أى منذ عصر محمد على والبعض منه يبدأ من عصر جمال عبدالناصر.

وفى النهاية المستهدف أن يفقد الإنسان المصرى ثقته بنفسه وقدرته على أى إنجاز، قدرته حتى على أن يقى نفسه من كورونا.

التعليقات