شيطان «نتفليكس»

كان سؤالى «كيف تقضى وقتك فى الإجازة الصيفية» موجها إلى صبى العائلة فى مقتبل مرحلة المراهقة، وجاءت الإجابة غير المستبعدة أنه يشاهد الكثير على شبكة «نتفليكس»، ولكنه أردف بآخر ما تصورته وهو أنه شاهد حلقات «لوسيفر»، وهو أحد الأسماء المعروفة فى الغرب للشيطان. بالصدفة البحتة كان صديقى د. محمد الخشت قد كتب مقالا رائعا فى الأهرام الغراء «ضد التصور الأسطورى للشيطان» من حلقتين مما يمارسه باقتدار فى كتاباته باستخدام علوم الأديان المقارنة والذى يأخذنا فى سياحة مثيرة بين الأديان والعقائد المختلفة السماوية وغير السماوية وما كان من تمثل للشيطان كظاهرة ممثلة للشر، والمضادة لما هو جيد «الخير».

السباحة فى ذلك فى إطار تاريخى تأخذنا إلى كيف كان استغلال الشيطان فى أغراض شيطانية من أجل التحكم والسيطرة. الصدفة الأخرى التى باتت حاكمة لمعلوماتى عن «لوسيفر» أنه الأول فى ترتيب العشر مشاهدات الأولى على نافذة «نتفليكس مصر» والتى يطل عليها ملايين المصريين، فى شهادة على إقبال ملح للتعرف على هذا المخلوق المروع فى الكتب السماوية. لم يكن هناك بد من الاطلاع على المسلسل الذى يبدأ بأن الشيطان الذى وظيفته الشر والوسوسة فى صدور الناس بما يدفعهم نحو الأفعال والأقوال الشريرة ويبعدهم عن الخير عملا وقولا قد قرر الاستقرار والعيش على الأرض.

الشخصية الممثلة للشر استقر مقامها على الكوكب فى مدينة «لوس إنجيلوس» أو مدينة الملائكة الأمريكية التى بحكم ما فيها من جمال وحرية فإنها ربما كانت آخر مدن الكون التى تحتاج إلى شيطان إضافى. هناك فإن الشيطان بما له من قوة وقدرات غير عادية تنتقل برشاقة بين المعقول واللامعقول سرعان ما يجد نفسه واقعا فى يد ضابطة من ضباط الشرطة الماهرين والتى تعمل بجدية كاملة لحماية البشر. هى باختصار «الملاك» المقابل للشيطان، كما هو الحال فى مقابلة الخير والشر. ومع الضابطة بدأ فى معالجة شرور البشر فى الجرائم التى تحاول حلها، وفى أثنائها يتعرف الشيطان على محللتها النفسية التى وإن بادلته «الرغبة» فإنها أيضا كانت قادرة تماما على تحليله. هنا تبدأ عملية تغيير الشيطان بأهل الأرض، لأن الملاك البشرى لا يتجاوب معه، والمحللة تكشف له أنه قدراته تضعف وتتراجع وحتى بات واضحا أنه ليس مخلدا كما يتصور، بل إنه طالما على الأرض أصبح فانيا.

للمسلسل تفاصيل كثيرة، وللمخرج والمؤلف رؤية أخرى لكيفية الانتصار على الشر حتى وسط ذنوب ومعاصى ومغريات ما أكثر منها فى مدينة سافرة وجريئة. السؤال الملح هو: هل هناك أصول علمية للتناقض الإنسانى فيما يتعلق بالخير والشر؛ وما إذا كان للأمر أصول جينية، وباختصار يمكن معالجته بطريقة أو بأخرى؟. الشيطان والظاهرة الشيطانية فى العادة لهما مُقتربها الدينى الذى يأخذ الإنسان نحو الخير وبعيدا عن الشر، ولكنهما فى نفس الوقت يكرسان لحقيقة أن كليهما موجود فى الإنسان باعتبارهما أمرا من أمور الطبيعة والخلق. علم النفس كثيرا ما يأخذها من ناحية أخرى باعتبارها انحرافا فى السلوك الإنسانى جرى اكتسابه نتيجة البيئة البشرية وربما الممارسات العائلية فى الطفولة، ويجرى علاجها بالتوصل إلى القصة الأصلية والاعتراف بها ثم تجاوزها. ولكن، وفى حدود العلم، فإن مقتربا بيولوجيا غير موجود اللهم إلا فيما يتعلق بالشخصيات كاملة الإجرام الموجودة فيمن يتلذذون بالتعذيب أو القتل أو الاغتصاب، وفيهم تكون مظاهر شيطان كامن؛ أين ربما لن نعرف تحديدا إلا فى مكان ما داخل عقل منحرف!.

أتصور أنه من الجائز جدا أن يحمل لنا العلم فى المستقبل ما هو أكثر عن الشر أو الوجود الشيطانى فى الإنسان. قبل سنوات وفى آخر غذاء حضرته مع حامل نوبل أحمد زويل، وأظنه كالعادة بدعوة من أ. إبراهيم المعلم، سألت ما هى آخر تطورات العلم؟.. أجاب عالمنا رحمه الله أن الجارى الآن هو كيف ندخل إلى الخلية البشرية بما نعرفه من تركيب وتفاعلات كيماوية وسرعاتها لكى نضيف علما أو نصحح سلوكا أو نرفع مرضا. توقعاته كانت أن ذلك سوف يؤذن بثورة كبرى فى العملية التعليمية، وأنه سوف يغير من طرائقنا فى الاقتراب من العلم. فيما بعد وقبل شهور كثر الحديث عن إمكانيات وضع شرائح فى الدماغ الإنسانية ربما يمكنها أن تقوم بدور الضابط للسلوك البشرى. الآن أتساءل: هل من الممكن إضافة الكثير من الخير وخصم الكثير من الشر ليس بهذه الشرائح وإنما من خلال معالجات جينية للمجرمين ومن يصيبون الناس بالأذى؟.. الشيطان هكذا يبدو ظاهرة بيولوجية بقدر ما هى دينية أو نفسية!.

التعليقات