ملك إسماعيل.. والوقت المناسب للرحيل

كان اللحن المميز ينساب بهدوء شديد إلى أذني من تليفزيون 16 بوصة. أسمعه حتى النهاية على وقع عنوان "سلوكيات" وهو يتصدر برنامج تليفزيوني أيام كان البث التليفزيوني فيه مقتصراً على ثلاث قنوات فقط.
الساعة الخامسة مساءً وحرارة الجو تبدأ في الانكسار. ما إن يبدأ البرنامج حتى تبدأ المذيعة الوقورة ذات النظارة المعتادة في تقديم الحلقة. تجلس أمام الشاشة، ووراءها ديكور بسيط للغاية، وتتحدث عن سلوكٍ مشين: جحود أبناء أو سوء معاملة سيدة لحماتها أو تفضيل أب لابن عن آخر أو غيرة أو حقد .... إلخ، ثم تبدأ حلقة درامية تناقش ذات السلوك، يكون أبطالها ممثلون مشهورون نسبيًا. وما إن تنتهي الحلقة تبدأ المذيعة الوقورة ما نسميه الآن فقرة الشارع. تهبط بميكروفونها ذي الغطاء الكبير، لتسأل المارة عن رأيهم في قصة السلوك. وقتها كان الناس يتحدثون من دون حسابات، يخرجون ما في قلوبهم، يعبرون عن آرائهم بخصوص القضية المثارة بمنتهى العمق. ثم تعود المذيعة مرة أخرى إلى ستوديو التقديم لتستضيف متخصصاً، ليناقشا الأمر. وتنتهي الحلقة بنفس الموسيقى.
الفقرة المحببة لي في كل هذا هو لحن المقدمة، والفقرة الدرامية، أما غير ذلك، فلا أهتم. لم أكن أهتم بما كنت وقتها أسميه "الرغي الكثير" من مذيعة ليست "فريدة الزمر ولا أحلام شلبي ولا نجوى إبراهيم". فقط مقدمة موسيقية لطيفة، وفقرة درامية أتعلم منها عبرة.
كل هذا مناسب لطفل لم يكن يتعدى العاشرة من عمره. ولكن ماذا حدث فيما بعد؟
توقف البرنامج، لا أذكر تاريخًا محددًا لهذا الأمر، ربما بعدما دخلت القنوات المتخصصة على الخط، أو قبلها بقليل. الموسيقى اختفت، لكنها في أذني. الفقرات الدرامية لا أذكر منها شيئًا، ولكن صوت المذيعة ذا البحة المميزة مازال عالقًا، رغم أنها ليست في قائمة المفضلات لديّ.
مرت سنوات. عرفت أن المقدمة هي مقدمة مسرحية "ميس الريم" بطولة فيروز، وأن مؤلفها هو زياد الرحباني، وضعها وعمره 18 سنة فقط.
سنوات أخرى تمر، ومذيعة البرنامج تختفي عن الأضواء تمامًا، ولكن يظل اسم البرنامج وفقراته "فورماته" عالقًا، تمامًا مثل صوت المذيعة وبحتها واسمها.
السنوات لا ترحم، بالأمس كان خبر وفاة ملك إسماعيل، صاحبة البرنامج، الذي أعتبره بعد كل هذا العمر، الأفضل، فيما رأيت، حتى وإن كنت لم أطق "الرغي" كما كنت أسميه في طفولتي. وقت وفاة ملك إسماعيل أعتبره دراميًا للغاية، لأنه جاء بعد حادث تحرش رجل بطفلة، التقطته كاميرا مراقبة، وكشفته سيدتان تعملان في شقة مجاورة. وفاة ملك إسماعيل، جاءت بعد سلوك ربما لو خصصت له الراحلة، حلقة في برنامجها، لسخر الناس من خيالها الجامح، أو ربما اتهموها بتشويه سمعة المصريين، وأقاموا عليها الدعاوى القضائية.
مثلما كانت ملك إسماعيل تصر أن تناقش سلوكيات المجتمع السيئة في برنامجها، عبر فقرة درامية متماسكة، رحلت وهي تشاهد فقرة "واقعية" عن سلوك، ربما لم يتحمله قلبها، وقلوب كثير مثلها.
الآن، أعتذر عن رفضي لما كنت أسميه "رغيًا" في طفولتي، إذ أعتقد أنه أهم كثيرًا من دروس ومواعظ تُلقى يوميًا على مسامعنا. كما أعتذر أيضًا أنني لم أكتب هذا الكلام في حياتها.

التعليقات