وهل أساء أبو سيف لسمعة مصر؟!

قد أصنف مهرجان الجونة فى معارض «الأزياء والسياحة» وليس فى مهرجانات السينما، فالحديث عن أزياء الفنانات والفنانين أضعاف الحديث عن السينما، ويبدو أن إدارة المهرجان أكثر اهتماما بالجلبة والضوضاء والتريندات والحوارات الساخنة عن الفساتين، وانتسابه السينمائى هو نوع من «الخداع البصري»، فالمهرجان نفسه أقرب إلى فيلم تجريبى، أتاح مخرجه مساحة ارتجالية لأبطاله من نجمات السينما ونجومه، يحددها حسب اللحظة التى يقف فيها أمام الكاميرا: الزى، الحركة، المشية، اللفتة، الإشارة، والجملة الحوارية، وهو متأكد أنه سيكون أكثر إثارة من أى سيناريو تقليدى مكتوب مهما شطح فيه خيال مؤلفه.
وعلى فكرة من حق أى فنانة (أو فنان) أن تستعرض ما تشاء من أزياء، هذه حريتها، خاصة وهى تفعل ذلك فى مكان خاص بمهرجان، وليس فى الشارع العام، وفى المقابل من حق أى إنسان أن يعلق ويبدى رأيه، بشرط أن يلتزم كلاهما بالقانون، بغض النظر عن التقاليد والعادات، فالتقاليد والعادات تختلف من مجتمع إلى مجتمع، وتتغير داخل أى مجتمع من طبقة إلى طبقة، ومن فئة إلى فئة، ومن جماعة إلى جماعة، ولا يحق لطرف أن يتصور رأيه هو الحقيقة أو الصواب المطلق، لأن الحرية فى جوهرها تتجاوز أفكار المتشددين أو المتحررين فى رؤية الحياة والحكم على تصرفات الآخرين، ويحددها القانون فقط.

وبالفعل لم أتوقف كثيرا أو قليلا أمام جلبة الأزياء فى الجونة، لكن توقفت أمام ما أثاره فيلم «ريش»، ولا أستطيع الحكم عليه فنيا، فلم أره، وإن قرأت معظم ما كتبه عنه نقاد سينما أثق فى ثقافتهم..

لكن عبارة «فيلم يسئ إلى مصر» هى أكثر ما يثير الحفيظة، عبارة تنتقص من قيمة مصر الدولة وتنزل بها إلى «رواية» عن شخص أو مجموعة من الأشخاص، ولا تدرك أن مصر لا تُقيم بفيلم سينمائى ولا مسرحية ولا مسلسل ولا..، فأى عمل فنى لا يمكنه أن يستوعب أى مجتمع داخله، هو مجرد حالة إنسانية، ربما يكون نموذجا فرديا من أحداث وبيئة وظروف اجتماعية..الخ، سفاح فى اللص والكلاب، مجرم خطير فى الوحش، بوسطجى فضولى فى البوسطجى، امرأة تبحث عن الطلاق قضائيا فى أريد حلا ..الخ ، وربما يكون نموذجا لعدد نسبى من جماعة اجتماعية ، مثل الشحاذين فى إضراب الشحاتين، أو الشيالين بالقطارت فى باب الحديد، أو تجار سوق الجملة فى الفتوة..الخ، ويستحيل أن يعبر النموذج سواء كان فرديا أو متعددا عن أحوال مجتمع بأسره، ولا حتى عن أحوال كل البشر الذى هو من طبقتهم أو فئتهم.

هذه مصيبة حين نصادف هذا التصور فى الواقع، والمصيبة أكبر أن صدر عن سينمائيين، وإلا اعتبرنا الفساتين العارية للفنانات هى الزى الرسمى للمصريات أو حتى قطاع عريض منهن.

وإذا كان فيلم ريش «يُفصل» حالة أسرة مصرية شديدة الفقر، فقطعا ليست هى مصر، ولا سكان القصور والفيلات والشقق المليونية هم مصر، والفقر درجات والغنى أيضا، ولا يوجد مجتمع فى العالم بلا فقراء «دقة» كما يقول الوصف الشعبى، وأذكر حين زرت الولايات المتحدة للدراسة فى أوائل التسعينيات، كتبت تحقيقا أقارن فيه بين نوعين من العرى، عريٌ بالإرادة ترقصه فتيات فاتنات فى صالة «استربتيز»، وعريٌ بالإكراه يعيشه مئات من السود والبيض المعدمين بملابس ممزقة فى العراء، ولا يبعد أكثر من خمسمائة متر خلف تلك الصالة الصاخبة فى مدينة «جاكسون» بولاية ميسيسبى.

وقطعا لا فتيات الاستربتيز تعبر عن المجتمع الأمريكى الذى يتقدم العالم علميا وصناعيا وعسكريا، ولا هؤلاء المعدمين يجسدون «أحوال» ذلك المجتمع، الذى كان وقتها الأغنى على ظهر الأرض، هم مجرد نماذج فى شريحتين مقتطعتين منه.

ولا أتصور أن الفقر الذى أظهره فيلم ريش يمكن أن يتجاوز الفقر الذى أوجعنا به المخرج الرائع صلاح أبو سيف فى فيلمين من أجمل أفلام السينما المصرية طوال تاريخها، هما بداية ونهاية والقاهرة 30، والفيلمان عن روايتين للعبقرى نجيب محفوظ.

بداية ونهاية لا يستعرض فقط أحوال أسرة فقيرة مات عائلها الموظف، تاركا زوجته وثلاثة أولاد، وبنتا على وش جواز، حتى ضاعت الأسرة وتفككت ومات ثلاثة منهم انتحارا وقتلا برصاص البوليس، فالفقر المدقع أشد قسوة من مثلث برمودا يبتلع أصحابه على مهل بعد أن يمتص دماءهم وأحلامهم ورحيق أيامهم قطرة قطرة، الأخ الكبير ينتهى به الأمر تاجرا فى الصنف هاربا من البوليس، والأخ الأوسط يوئد أحلامه فى التعليم ويعمل بالشهادة المتوسطة بمرتب لا يسد فاه الفقر المتوحش، والبنت تنحرف إلى الدعارة هروبا من قلة جمالها، ولتنفق على أخيها الذى دخل الكلية الحربية بالواسطة، وينتحر الاثنان حين تقع بينهما مواجهة الواقع وحقائقه المرة..هل هناك ما هو أوجع من هذا الفقر؟

ربما فقر القاهرة 30، إذ أضيف إليه فساد الوظيفة العامة وسفالتها، فإحسان شحاته طالبة معهد التربية فائقة الجمال من أسرة يقتات عليها الفقر نفسه، فلا تجد مفرا من بيع شرفها تحت إشراف أبيها وأمها، وبالاشتراك مع شاب معدم مثلها هو محجوب عبد الدايم خريج كلية الحقوق العاطل، ويذله الفقر إلى حد القوادة، فيتزوج منها ويقدمها عشيقةً لوكيل الوزارة الذى يعينه سكرتيرا له..

وفى النهاية يعود الجميع إلى العوز، بعد أن ينفضح أمر وكيل الوزارة، كما لو أن الفقر قبضة فولاذية لا فكاك منها مهما كانت الحيل والأساليب.

أى مجتمع هو قماشة عريضة متنوعة الأشكال والألوان، والفن محاكاة لبعض الواقع، ويصور جزءا من المجتمع ،لا يجسده ولا يختزله، ومن يتصور غير ذلك فهذه أزمته الخاصة ولا علاقة لها بالعمل الفنى، فالفن معياره نفسه وليس ما يفهمه أو يفسره المتلقى، سواء قبله أو رفضه.

"من صفحته بالفيس بوك"

التعليقات