أحلام لا تنتهي..

في بداية الامر تعاملت مع كتاب "مذكرات عزة فهمي " الصادر مؤخرا باعتباره سيرة فنانة " عصامية " صنعت لنفسها مسارا تجاوز الحدود و استطاعت بدأب و صبر ان تجعل من اسمها " علما " او ماركة او" براند عبر توثيق تاريخ مصر، بصياغة السوار والعقد و الحلق . فعلا وضعتها في مصاف المؤرخين ، بوسيط أخر غير الكلمات ، هو معدن الفضة ، و اعتبرت ان تفردها كان في الكيفية التي طوعت بها المعدن ، حين بثت في مادته الصلدة كوامن " الروح المصرية " فصار بالامكان ان تستقرأ زوايا من زخم مصر الفرعونية والقبطية و الاسلامية عبر المصاغ . و علي الرغم من ان الظروف سمحت لي بفرصة تبادل وجهات النظر احيانا مع عزة عبر دردشات طويلة ، وعلي الرغم من الاطلاع علي بعض أجزائه اثناء العمل ، الا ان كتاب "مذكرات عزة فهمي .. احلام لاتنتهي " الذي صدر عن الدار المصرية اللبنانية هذا الاسبوع ، كان مفاجئا لي في صورته النهائية ، نصا وإخراجا و طباعة الكتاب الذي راجعته عزة " ثلاثين مرة " قبل ان توافق علي الدفع به الي المطبعة ، عمل فني ممتع ، يفيض بالتاريخ و الجغرافيا والانثروبولوجي .. حتة " صيغة " شفتشي .. مساحة دانتيللا
"غزلتها " بنفس الدأب والقدرة علي الغوص في التفاصيل و الدقة التي تتعامل بها مع قطعها الفنية ، فاذا بنا امام نوع من "التأريخ" الجاد و الصادق ، لما كاد ان يفلت من بين أصابعنا او ما قارب علي الاندثار لحرف و مناطق و شخصيات و احياء و تقاليد مهن و مدن ، كل ذلك بالتوازي مع سيرة انسانية لمكابدة "اصطياد الحلم "، او الاحلام التي لا تنتهي ، و هذا ما عنونت به عزة فهمي كتابها " مذكرات عزة فهمي .. احلام لاتنتهي " . من اي زاوية تختارها سوف يستغرقك" مشوار عزه"، لانك سرعان ما سوف تكتشف انك ازاء خطين متوازيين ، سرعان ما توحدا في مشوار هذه المبدعة ، سيرتها التي ناطحت فيها الظروف و سيرة الوطن نفسه موزعة و متخللة في كل مسام هذا العمل الممتع و المحفز . اختارت عزة فهمي نوعا من الحكي الذي يشعر قارئها بالألفة ، لم تفتعل لغة و لا اسلوبا ، لكنها تسامرت مع المتلقي كما تفعل في حياتها وعملها ، بلغتها اليومية " العامية " الني اغتنت ببلاغة الصدق .. تأتي هذه السيرة الملهمة فعلا ، في لحظة نحن احوج ما نكون فيها الي " المعني " الذي يجعل الطريق الي تحقيق الحلم غير مشروط الا بوضوح الهدف ثم الاصرار مهما كان الطريق وعرا ، و في هذا السياق السيرة متخمة بتفاصيل حقيقية ... هذه السيدة التي تحتل صورها مجلات "فوربس" المعنية بنجاح اصحاب الاعمال و التي تطوق قطعها اعناق و اذرع اثري اثرياء المشاهير، والتي صار اسمها وحده ضمانا للابداع الراقي الواثق الهاضم للتاريخ ، هذه االسيدة كانت في وقت من الاوقات ، ترتق جواربها لتجعلها صالحة لأطول فترة ، و تختار ان تقطع المسافة سيرا علي الاقدام ، من مكان وظيفتها الاولي في هيئة الاستعلامات بميدان التحرير الي خان الخليلي والصاغة ، حتي تتمكن من شراء " سندوتش" يحتوي علي بيضة مسلوقة يسد الجوع ... تشبه عزة فهمي في سبيكتها الانسانية " الشغل الشفتشي" في الذهب .. منمات يتم تحويل خامة الذهب بالصهر ، الي خيوط ، تتحول الخيوط الي غزل شديد الرهافة والدقة ، منه تتشكل الزهور والنجوم الأهلة و الشموس ، في الكردان والحلق ... و هكذا كانت حياة عزة فهمي و ضفيرة جذورها المصرية السودانية التركية ...موظفة هيئة الاستعلامات بعد دراسة الديكور في كلية الفنون الجميلة التي أرجعتها الحياة ما بين "رغد الحياة و هدهداتها " في كنف اب ميسور ، الموظف الكبير في شركة انجليزية للأقطار، و طفولة وصبا كالحلم ثم شظف و "كد و شظف نفس الحياة "بعد رحيله والانتقال الي حلوان . سوف تدهشك الذاكرة السمعية البصرية التي تنقلك بها عزة فهمي الي ثنايا حياتها فتعرف و تشم و تستنشق سوهاج و بهجة السنوات الامنة و شخصية الاب الشديد المصرية وثراء تجربته الحياتية والمعرفية التي سوف تتسرب الي مسام عزة ، لتصبح رافدا اساسيا في مجمل تجربتها . عزة "ذاكرة متحركة " و حكيها مرئي ، مسموع لكنها ايضا ارشيف متحرك ، لا يترك شاردة ولا واردة بغير وثيقة ، و الوثيقة قد تكون صورة ، خطاب ، هامش من كتاب ، رسم .. إيصالا ، تذكرة اعلانا ، و بمناسبة الاعلانات يحوي الكتاب مجموعة نادرة من الاعلانات المصورة من اول باتا و الصابون النابلسي و حتي زجاجات اللبن المبتسراالذيركانت تنجه شركة مصر للألبان وسعر الزجاجة ثلاثة قروش ، صفحة من الوقائع المصرية ( عندما اردت ان تعرفنا علي عمل ابيها ، موظف شركة الأقطان الانجليزية ، قدمت شرحا لمعني حلج القطن ، جاءت به من من مخطوط بدائع الصنائع في تركيب الشرائع ، للعالم علاء الدين الكسانيالمتوفي587 هجريا مع خريطة لمحالة القطن في مصر ، و ألحقت ايضا صفحة من الوقائع المصرية بتاريخ ١٧ مايو ١٨٨١ العدد ١١١٤ من " قلم الزراعة ، عن زراعة القطن ، دون ان يفوتها صور توضح انواع القطن من الاشمونين و جيزة ٤٥ وغيرهما . وافيا حتي المهم انك طوال الوقت و علي طول الصفحات التي يقرب عددها من الأربعمائة صفحة ، تنصت و تري فيلما روائيا ، و ثائقية ، و اقعيا و حالما في نفس الوقت . ..يحرضك الكتاب علي الاستغراق في تفاصيله التي رغم السنوات ، تبدو شهية ، مغرية علي الالتهام طازة بنار الفرن " ، لم تبهت اي تفصيلة حياتية في رحلة حياة عزة من اول مما يجعل مهمة الاختزال والاختيار لما تقدمه للقارئ ، مهمة ليست يسيرة ..

*نقلاً عن صفحتها على موقع فيس بوك

التعليقات