مات.. فأنصِفوه!

كان الروائى الكبير يحلم بالإنصاف حتى بعد موته، فطلب فى أحد أحاديثه الصحفية أن يُكتب على قبره: «لقد مات، فأنصِفوه».

جاءت العبارة السابقة فى كتاب «إحسان عبدالقدوس» «سيرة أخرى»، الذى صدر حديثًا للكاتب الصحفى المرموق «إبراهيم عبدالعزيز»، والذى يرصد فيه تنويعات مثيرة وشيِّقة من القضايا والمعارك السياسية والفكرية والفنية المتصلة بمسيرة «إحسان عبدالقدوس» فى الفن والحياة. لعل أهمها تلك المفارقة المدهشة بين رأى النقاد والجمهور فى أدب «إحسان» وأفلامه.. فبينما كان ولايزال- رغم رحيله- هو الروائى الأكثر شعبية وتوزيعًا وانتشارًا وجماهيرية، سواء برواياته أو بالأفلام المأخوذة عن قصصه.

فقد كان يُواجَه بهجوم شرس أو تجاهل مترفِّع من معظم النقاد المعاصرين له، وعلى رأسهم «لويس عوض»، الذى لم يتناول أدب «إحسان» إلا مرة واحدة فقط بالهجاء، وكان تبريره- كما أورد الأستاذ «إبراهيم عبدالعزيز» فى كتابه- أن «إحسان» وجيله يشكلون مدرسة كانت تستحق منه الإقبال على تحليل أدبهم القصصى، ومع ذلك لم يُولِّها اهتمامًا بالتقييم النقدى، واكتفى بقوله إن سلبيات فنهم كانت فى نظره أكثر من الإيجابيات. المفارقة الثانية أنه رغم سعادة «إحسان» بجماهيريته الساحقة، وبالرغم من رده العنيف حينما سألته الصحفية «حسن شاه» أيهما أفضل أن يستقبل القراء إنتاجك استقبالًا حارًا دون أن يكتب عنك النقاد أم يتجاهلك القراء فى حين يتحمس لك النقاد؟

قال: «أنا أبيع النقاد كلهم بقارئ واحد جديد». المفارقة أنه مع ذلك كان يتمنى هذا الإنصاف الذى افتقده من النقاد، مما يُذكِّرنى بعبارة أخرى قالها الأديب «زكى مبارك» حينما سُئل:

لماذا تُكثر من ترديد كلمة «أنا.. أنا» فى كتاباتك وأحاديثك؟ فقال: «لم أجد مَن ينصفنى، فأنصفت نفسى».

■ ■ ■

كنت وأنا فى أوائل العشرينيات من عمرى أجالس فى مقهى «ريش» الكثير من بعض النقاد أصحاب المواقف الأيديولوجية.

وكنت أتقرب منهم وأسمعهم يتناولون «إحسان» بالكثير من الترفُّع عن متابعة قراءة رواياته.. ومع ذلك لا تخلو مقالاتهم من إصدار أحكامهم النقدية القاسية عليه.. ولخصوه فى «أفيشات» رخيصة تصفه بأنه «صاحب أدب الفراش»، رائد مدرسة العرى.

ولا أبالغ إذا قلت إننى ومَن فى مثل عمرى من الزملاء فى ذلك الوقت كنا نتحرج أن يحمل الواحد منّا رواية لـ«إحسان» حتى لا نُتهم من أولئك- الذين نتطلع إليهم بانبهار ككبار فى الحركة النقدية- بالتفاهة والسطحية.. وقد انقطعت تأثرًا بهم عن قراءة أدب «إحسان» حتى بلغت الثلاثين من عمرى.

فعاودت القراءة بإمعان ودقة ودأب، فندمت ندمًا بالغًا على ما فعلت.. وتبين لى أن تلك النظرة لأدبه هى نظرة متعجلة وظالمة من نقاد فشلوا فى وضعه ضمن قوالبهم الأكاديمية الجاهزة، التى تخشى نوافذه المفتوحة على مصراعيها، والتى يطل منها بنظرة رحبة إلى العالم من حوله متحديًا مجتمعًا طبقيًا مغلقًا يفتقر إلى الحرية والديمقراطية.

ويتحصن فيه بوعى زائف وموروثات وتقاليد متخلفة.. والجنس كما يعبر عنه «إحسان» لا يهدف بالقطع إلى إثارة الغرائز أو التعبير الرخيص عن جموح الشهوات الحيوانية.. لكنه يكشف عن المسكوت عنه خارج جدران السجون الاجتماعية والمعتقلات العاطفية.. والبيئة المحافظة التى تحتمى بمفاهيم زائفة عن الشرف الذى تحصره فى جسد امرأة.

إن المرأة الجديدة التى حاول إحسان عبدالقدوس أن يُطْلقها خارج هذا الإطار المتعسف هى المرأة التى انتصرت لوجودها الإيجابى والمثمر والإنسانى خارج الأسوار، وهى بطلة «أين عمرى» و«أنا حرة» و«الطريق المسدود» و«لا تطفئ الشمس» و«النظارة السوداء» و«بئر الحرمان» و«أين عقلى».. إن «إحسان» كما يراه «يحيى حقى» هو الكاهن الكبير فى معبد الحب الذى يجلس فى صدارة مجلس العشاق ليصعد به إلى بريد القلوب من كل حدب وصوب.

المدهش فى الأمر أن كاتبنا الروائى العظيم صاحب جائزة نوبل «نجيب محفوظ» لم يسلم أيضًا فى بداياته من تجاهل هؤلاء النقاد «الأيديولوجيين» لأدبه، فلم يتناول واحد منهم بالتحليل النقدى «الثلاثية»، بل كان أول مَن أشاد بها «سيد قطب»، الذى يؤكد «نجيب محفوظ» أنه الوحيد الذى التفت إلى أعماله وكتب عنها ولفت الأنظار إليها.

وكان ذلك فى الأربعينيات.. بل إنه لم يسلم فى مرحلة أخرى من هجوم هؤلاء النقاد العاصف عليه.. والمضحك أنهم اتهموه بنفاق السلطة رغم رواياته الجَسورة السافرة فى انتقاد الديكتاتورية وصراع الطبقات فى المجتمع والافتقاد إلى العدالة الاجتماعية مثل «ميرامار» و«ثرثرة فوق النيل» و«الكرنك».

يقول فى ذلك «نجيب محفوظ»: «هؤلاء لا يعرفون أننى كنت أكتب تلك الروايات، ثم أضع يدى على قلبى خشية الاعتقال».

"عن المصري اليوم"

التعليقات