الثورة العرابية.. ماذا فعلت بمصر !

يبدو أن مقولة الكاتب الساخر " برناردو شو" التي يقول فيها "يستحسن كتابة التاريخ بالقلم الرصاص" هي أفضل توصيف لحال تاريخ مصر الحديث على الأقل ، فهو التاريخ الذى كتب صفحاته معاصروه، واختلفت بالتالي الروايات وتاهت الحقائق واشتعلت الخلافات، وهو ما حدث مع الثورة العرابية، أو هوجة عرابي التي لايزال الخلاف مستمرا حولها بين المؤرخين إلى الآن، فهناك من يعتبرها واحدة من اهم الثورات الوطنية لضباط وجنود من الجيش المصري في مواجهة الخديوي توفيق وحلفائه من الضباط الشراكسة الذين كانوا يسيطرون على الجيش، وهناك من يرى أن تلك الثورة أو الهوجة أدت إلى احتلال مصر بعد استعانة او استغاثة توفيق بالإنجليز !

ولد أحمد عرابي في رمضان 1 أبريل 1841 في قرية هرية رزنة بمحافظة الشرقية. تعلم القران الكريم وأرسله والده الذي كان عمدة القرية إلى التعليم الديني حتى عام 1849 ثم التحق بالمدرسة الحربية. ارتقى عرابي سلم الرتب العسكرية بسرعة حيث أصبح نقيبا في سن العشرين. شارك في حروب الخديوي إسماعيل في الحبشة وترقي في الجيش الي ان وصل إلى رتبة اميرالاي  وكان يعتبر احد المصريين القلائل الذين وصلوا إلى هذه الرتبة بسبب انحياز قادة الجيش وناظر الجهادية الى الضباط الشركس والاتراك .

انتشرت في الجيش حركة احتجاجية غاضبة ضد انفراد الضباط الشراكسة بقيادة الجيش وحرمان الضباط المصريين من الترقية ، وبعد ازدياد السخط تم الاتفاق على اللجوء الى الخديوي لتقديم عريضة له بمطالب الضباط ، وهو ما حدث في يوم ٩ سبتمبر ١٨٨١ حيث احتشد مئات الضباط امام قصر عابدين، وخرج الخديوي لتسلم العريضة من احمد عرابي وزملائه ، ولم يثبت تاريخيا المقولة التى نسبت لعرابي " والله الذى لا اله الا هو .  لينا عبيدا ولا عقارا ولن نورث بعد اليوم " كما نفى المعاصرون لمسيرة عرابي إلى عابدين أن يكون عرابي قد تحدث إلى الخديوي وهو فوق صهوة جواده ، والصورة الشهيرة لعرابي فوق جواده والخديوي أمامه من ابداع خيالات رسامين لا اكثر.

الصورة المزعومة لأحمد عرابي

 

استجاب الخديوي لمطالب قادة الحركة الاحتجاجية، وعزل رياض باشا من رئاسة الوزارة، وعهد إلى شريف باشا بتشكيل الوزارة،،في (14 سبتمبر 1881)، وسعى لوضع دستور للبلاد، ونجح في الانتهاء منه وعرضه على مجلس النواب الذي أقر معظم مواده، ثم عصف بهذا الجهد تدخل إنجلترا وفرنسا في شئون البلاد، وتأزمت الأمور، وتقدم "شريف باشا" باستقالته في (2 فبراير 1882).

والمثير أن التاريخ كرر نفسه في ٢٣ يوليو ١٩٥٢ عندما تكونت حركة الضباط الاحرار فى الجيش احتجاجا على الفساد داخل الجيش ، وكانت مطالب "الحركة المباركة " التخلص من قيادات الجيش الفاسدة وتطهيره من قادته الذين قادوه الى هزيمة 1984، وتم القبول بتعيين محمد نجيب قائدا للجيش فى تراجع مثير للملك فاروق امام ضغط الضباط الاحرار ، الذين استفادوا من اخطاء عرابي فقاموا بإجبار فاروق على التنازل عن العرش ومغادرة البلاد

نعود الى ايام الثورة العرابية فقد تشكلت حكومة جديدة برئاسة محمود سامي البارودي، وشغل عرابي فيها منصب "وزير الجهادية" (الدفاع)، وقوبلت وزارة "البارودي" بالارتياح والقبول من مختلف الدوائر العسكرية والمدنية؛ لأنها كانت تحقيقًا لرغبة الأمة، ومعقد الآمال، وكانت عند حسن الظن، فأعلنت الدستور، وصدر المرسوم الخديوي به في (7 فبراير 1882 م).

غير أن هذه الخطوة الوليدة إلى الحياة النيابية تعثرت بعد نشوب الخلاف بين الخديوي ووزارة البارودي حول تنفيذ بعض الأحكام العسكرية، ولم يجد هذا الخلاف مَن يحتويه من عقلاء الطرفين، فاشتدت الأزمة، وتعقد الحل، ووجدت بريطانيا وفرنسا في هذا الخلاف المستعر بين الخديوي ووزرائه فرصة للتدخل في شئون البلاد، فبعثت بأسطوليهما إلى شاطئ الإسكندرية بدعوى حماية الأجانب من الأخطار.

ولم يكد يحضر الأسطولان الإنجليزي والفرنسي إلى مياه الإسكندرية حتى أخذت الدولتان تخاطبان الحكومة المصرية بلغة التهديد والبلاغات الرسمية، ثم تقدم قنصلا الدولتين إلى البارودي بمذكرة مشتركة في (7 رجب 1299 هـ = 25 مايو 1882 م) يطلبان فيها استقالة الوزارة، وإبعاد عرابي وزير الجهادية عن القطر المصري مؤقتًا مع احتفاظه برتبه ومرتباته، وإقامة "علي باشا فهمي" و"عبد العال باشا حلمي" –وهما من زملاء عرابي وكبار قادة الجيش- في الريف مع احتفاظهما برتبتيهما ومرتبيهما.

وكان رد وزارة البارودي رفض هذه المذكرة باعتبارها تدخلا مهينًا في شئون البلاد الداخلية، وطلبت من الخديوي توفيق التضامن معها في الرفض؛ إلا أنه أعلن قبوله لمطالب الدولتين، وإزاء هذا الموقف قدم البارودي استقالته من الوزارة، فقبلها الخديوي.

غير أن عرابي بقي في منصبه بعد أن أعلنت حامية الإسكندرية أنها لا تقبل بغير عرابي ناظرًا للجهادية، فاضطر الخديوي إلى إبقائه في منصبه، وتكليفه بحفظ الأمن في البلاد، غير أن الأمور في البلاد ازدادت سوءًا بعد حدوث مذبحة الإسكندرية في (11 يونيو 1882م)، وكان سببها قيام صاحب عربة لنقل الركاب على الحمير من مالطة من رعايا بريطانيا بقتل أحد المصريين، فشب نزاع تطور إلى قتال سقط خلاله العشرات من الطرفين قتلى وجرحى.

وعقب الحادث تشكلت وزارة جديدة ترأسها "إسماعيل راغب"، وشغل "عرابي" فيها نظارة الجهادية، وقامت الوزارة بتهدئة النفوس، وعملت على استتباب الأمن في الإسكندرية، وتشكيل لجنة للبحث في أسباب المذبحة، ومعاقبة المسئولين عنها.

قصف الإسكندرية

ولما كانت إنجلترا قد بيتت أمرًا، فقد أعلنت تشككها في قدرة الحكومة الجديدة على حفظ الأمن، وبدأت في اختلاق الأسباب للتحرش بالحكومة المصرية، ولم تعجز في البحث عن وسيلة لهدفها، فانتهزت فرصة تجديد قلاع الاسكندرية وتقوية استحكاماتها، وإمدادها بالرجال والسلاح، وأرسلت إلى قائد حامية الإسكندرية إنذارًا في (10 يوليو 1882 م) بوقف عمليات التحصين والتجديد، وإنزال المدافع الموجودة بها.

ولما رفض الخديوي ومجلس وزرائه هذه التهديدات، قام الأسطول الإنجليزي في اليوم التالي بضرب الإسكندرية وتدمير قلاعها، وواصل الأسطول القصف في اليوم التالي، فاضطرت المدينة إلى التسليم ورفع الأعلام البيضاء، واضطر أحمد عرابي إلى التحرك بقواته إلى "كفر الدوار"، وإعادة تنظيم جيشه.

وبدلاً من أن يقاوم الخديوي المحتلين، استقبل في قصر الرمل بالإسكندرية الأميرال بوشامب سيمور قائد الأسطول البريطاني، وانحاز إلى الإنجليز، وجعل نفسه وسلطته الحكومية رهن تصرفهم حتى قبل أن يحتلوا الإسكندرية. فأثناء القتال أرسل الإنجليز ثلة من جنودهم ذوي الجاكتات الزرقاء لحماية الخديوي أثناء انتقاله من قصر الرمل إلى قصر التين عبر شوارع الإسكندرية المشتعلة. ثم أرسل الخديوي إلى أحمد عرابي في كفر الدوار يأمره بالكف عن الاستعدادات الحربية، ويحمّله تبعة ضرب الإسكندرية، ويأمره بالمثول لديه في قصر رأس التين؛ ليتلقى منه تعليماته.

مواجهة الخديوي ورفض قراراته

رفض عرابي الانصياع للخديوي بعد موقفه المخزي، وبعث إلى جميع أنحاء البلاد ببرقيات يتهم فيها الخديوي بالانحياز إلى الإنجليز، ويحذر من اتباع أوامره، وأرسل في 16 يوليو إلى "يعقوب سامي باشا" وكيل نظارة الجهادية يطلب منه عقد جمعية وطنية ممثلة من أعيان البلاد وأمرائها وعلمائها للنظر في الموقف المتردي وما يجب عمله، فاجتمعت الجمعية في (غرة رمضان 1299هـ= 17 يوليو 1882م)، وكان عدد المجتمعين نحو أربعمائة، وأجمعوا على استمرار الاستعدادات الحربية ما دامت بوارج الإنجليز في السواحل، وجنودها يحتلون الإسكندرية.

في اليوم نفسه اجتمع يعقوب سامي بعدد من وكلاء النظارات وكبار المواطنين والضباط.. وكان عدد الذين حضورا 70 شخصا.. وقرر الحضور انعقاد اجتماع موسع من كبار العلماء والرؤساء الدينيين وأمراء العائلة الخديوية والأعيان.. وعقد هذا الاجتماع الموسع في اليوم التالي الاثنين 17 يوليو ، وحضره نحو 400 شخص في مقدمتهم الشيخ الإمبابي شيخ الإسلام والبطريرك كيرلس الخامس ، وقرروا ضرورة حضور الخديوي توفيق إلى العاصمة القاهرة ، وتشكيل لجنة برياسة علي مبارك لإبلاغ هذا القرار للخديوي ، وذهب علي مبارك ولم يعد للقاهرة. وعرف الناس أن المراقبين الماليين الإنجليز أخذوا الاموال الموجودة في صندوق الدين إلى المراكب الحربية.

وكان رد فعل الخديوي على هذا القرار هو اصدار بيان في نفس اليوم 17 يوليو 1882، بعزل عرابي من منصبه، وتعيين "عمر لطفي" محافظ الإسكندرية بدلا منه. وأردف البيان الخديوي بأن تجهيزات الحرب مسؤولية عرابي والخديوي غير مسئول عن تصرفات عرابي. ولكن عرابي لم يمتثل للقرار، واستمر في عمل الاستعدادات في كفر الدوار لمقاومة الإنجليز. بعد انتصار عرابي في معركة كفر الدوار أرسل عرابي إلى يعقوب سامي يدعوه إلى عقد اجتماع للجمعية العمومية للنظر في قرار العزل.

وفي (6 رمضان 1299 هـ = 22 يوليو 1882 م) عُقِد اجتماع في وزارة الداخلية، حضره نحو خمسمائة من الأعضاء، يتقدمهم شيخ الأزهر وقاضي قضاة مصر ومُفتيها، ونقيب الأشراف، وبطريرك الأقباط، وحاخام اليهود والنواب والقضاة والمفتشون، ومديرو المديريات، وكبار الأعيان وكثير من العمد، فضلا عن ثلاثة من أمراء الأسرة الحاكمة.

وفي الاجتماع أفتى ثلاثة من كبار شيوخ الأزهر، وهم "محمد عليش" و"حسن العدوي"، و"الخلفاوي" بمروق الخديوي عن الدين؛ لانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده، وبعد مداولة الرأي أصدرت الجمعية قرارها بعدم عزل عرابي عن منصبه، ووقف أوامر الخديوي ونظّاره وعدم تنفيذها؛ لخروجه عن الشرع الحنيف والقانون المنيف.

اغلاق قناة السويس

لجأ الإنجليز والخديوي توفيق لمختلف الحيل لكسر شوكة أحمد عرابي ورجاله. صدر منشور من السلطان عبد الحميد الأول يعلن عصيان أحمد عرابي وأكد ديليسبس أن الإنجليز لن يهاجموه في الجبهة الشرقية عن طريق قناة السويس لأن القناة محايدة. وانضم محمد سلطان باشا صراحة إلى الخديوي توفيق ضد عرابي. يوسف خنفس وعدد من الضباط. احتل الإنجليز بورسعيد. وفي 21 أغسطس وصلت القوات الهندية التابعة لقوات الاحتلال الإنجليزي إلى السويس .

معركة القصاصين

وقعت معركة القصاصين في 28 أغسطس 1882 أثناء تقدم الجيش البريطاني غربا في محافظة الإسماعيلية بقيادة جنرال جراهام حوصر من قبل الأهالي العزل فطلب الإمداد بمزيد من الذخيرة في الساعة 4:30 عصرا فوصلته الساعة 8:45 مساءا مما مكنه من القيام بمذبحة كبيرة بين الأهالي.

انتهت الثورة العرابية بعزل احمد عرابي ومحاكمته ونفيه الى جزيرة سيلان في الهند، وبعد سنوات في المنفي عاد رجلا هرما ، وهاجمه الشيخ محمد عبده والشاعر احمد شوقي الذى هجاه بأبيات من الشعر الجارحة باعتباره مسؤولا عن احتلال مصر ، وبعد نجاح حركة الجيش في ٢٣ يوليو تم اعادة الاعتبار لعرابي، وتمت اعادة كتابة التاريخ مرة جديدة ، ليتحول المغامر الذى تسبب في احتلال مصر كما قال نقاده الى بطل وقائد لاهم ثورة في تاريخ مصر ضد أسرة محمد على التي أنهت وجودها ثورة يوليو ١٩٥٢ ، ويبقي الباحثون عن الحقيقة العودة الى ملفات هوجة او ثورة عرابي من جديد !

التعليقات