ماذا كتب هيكل عن " العنكبوت " حسين سالم؟ .. أخطر رجال مبارك

توفى، مساء الاثنين، رجل الأعمال حسين سالم عن عمر يناهز 85 عامًا في العاصمة الإسبانية مدريد، بعد أن عانى مؤخرًا من آثار الشيخوخة.

ومرت حياة حسين سالم بالعديد من المحطات منذ ولادته وحتى ثورة 25 يناير 2011 وهروبه إلى إسبانيا ومن ثم التصالح مع الدولة مقابل التنازل عن جزء كبير من ثروته.

حسين سالم، كان له ظهور بارز في كتاب "مبارك وزمانه من المنصة إلى الميدان" للكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل، وننشر كلمات هيكل عن دور حسين سالم في دولة مبارك..

إلى نص ما جاء بالكتاب..

عندما بدأ ترشيح «مبارك» لمدة رئاسة ثالثة لم يكن فى مقدورى غير أن أقف بعيدا لا تأييد ولا معارضة، وللحقيقة فإنه لم يكن الآن فى حاجة إلى سند من أى طرف، فقد عزز مواقعه، أو كذلك بدا داخليا وخارجيا ـ أو بالعكس.

وأكثر من ذلك فقد تمكَّن من تفريغ محيط النخبة فى مصر، فلم تتعد تتسع لغيره، أو لمن يشاء ويختار، إذا جاءت ضرورات للاختيار، حتى بالنسبة لمنصب نائب رئيس الجمهورية.

ولم يكن «مبارك» على أى حال مستعدا لقبول «رجل» يجلس خلفه أو يجلس بجانبه فى انتظار موعد التغيير أو مفاجأة المقادير، وكان عذره للناس «أنه لا يريد أن يفرض عليهم بديلا، إذا عُيِّن بقرار منه نائبا له»، وكان فى ذلك القول منطق، وفى ظاهره حق، ولم يخطر ببال أحد أن ظاهر الحق قد يخفى وراءه خاطرا ما زال بعيدا فى ضباب المجهول!!

لكن الرجل ـ وهو يؤبد لحكمه برئاسة ثالثة ـ وإلى آخر «نبض يخفق، ونَفَسْ يتردد» على حد ما قال، لا يزال كما كان فى أول يوم سؤالا بلا جواب!!

من هو الرجل بالضبط؟! ـ وماذا يعلم الناس عنه أكثر من اختيار «السادات» له؟! ـ ما الذى علَّمته له السلطة خلال قرابة العشرين سنة قضاها على قمة سلطة لم يكن يريدها، ولم يكن مستعدا لها (كما قال وكرر)؟!!

وما هى بالضبط عناصر ثقافته، وماذا أضاف الحكم إليها، أو ماذا حذف منها أو صحح؟!!


●●●

ولعل أسباب القلق زادت وظهرت إلى العلن عندما لاح شبح السيد «حسين سالم» قريبا من «مبارك»، وفى الواقع فإن اسم «حسين سالم» تقاطع مع اسم الرئيس «مبارك»، وإن لم يكن التماسا ظاهرا فى البداية، والواقع أن العلاقة بين الاثنين تبدت منذ وصول «مبارك» إلى مقعد الرئاسة عقب اغتيال الرئيس «السادات»، وبالذات فى معرض قضية نظرت بالفعل أمام محاكم «فلوريدا»، وهى تخص شركة (ايستكو) لنقل المعدات العسكرية الأمريكية الممنوحة لمصر، بمقتضى المساعدات الملحقة باتفاقية السلام مع إسرائيل، فقد كان اسم «مبارك» بصفته الرسمية مسجلا فى مستندات القضية كواحد من مؤسسى الشركة، وراح الصحفى الأمريكى الذائع الصيت فى ذلك الوقت «چاك أندرسون» يكتب عنها ويشير إلى «مبارك» بالاسم فى عموده اليومى الذى تنشره مئات الصحف الأمريكية.

لكن الضجة التى ثارت من حول القضية هدأت حدتها ونامت وقائعها، إلا من حكم صدر غيابيا يمنع «حسين سالم» من دخول أمريكا.

لكن شبح «حسين سالم» بقرب «مبارك» بدأ يخرج من الظل إلى ضوء الشمس مع تحول منتجع «شرم الشيخ» إلى شبه عاصمة سياسية ـ ثانية ـ لمصر، وكان «حسين سالم» بمثابة العمدة لهذه العاصمة الثانية («شرم الشيخ»)!!

●●●

وبمحض مصادفات ذات يوم سنة 1988 وجدت السيد «حسين سالم» أمامى، فقد صعدت إلى طائرة سويسرية من مطار القاهرة قاصدا «جنيف»، وبعد أن أقلعت الطائرة واستوت فى الجو، وإذا رجل طويل القامة أسمر الملامح يقف بجوار مقعدى، ويقدم نفسه لى على أنه: «حسين سالم».

وسألته تلقائيا عما إذا كان هو «ال»: حرف The، الذى يستعمل فى وصف شخصية بالذات تحمل اسما بالذات شاعت حوله مواصفات تخصه، وصفات تشير إليه تحديدا.

ورد الرجل بحيرة ظاهرة: «لا أعرف من هو «The» الذى تقصده، ولكنى أظنه أنا».

وأوضح أنه كان يجلس فى مقاعد الوسط فى الطائرة السويسرية، ورآنى أدخل الطائرة وأجلس على الجناح الأيمن لها فى الصف التالى، وراودته فكرة أن يتحدث معى، ثم استأذن إذا كانت قرينتى الجالسة إلى جوارى تسمح بأن تنتقل إلى مقعده بجوار زوجته، لأنه يريد أن يتحدث معى بعض الوقت، وكذلك جرى، وعندما جلس إلى جوارى كانت أول ملاحظة قلتها له: «هذه السيدة ـ زوجتك ـ شابة جدا عليك»، وفهم الملاحظة ورد عليها: «إن هذه زوجته الثانية، وأضاف: هى «ليست أم الأولاد»، لدىَّ فى الحقيقة زوجتان: واحدة للبيت والعائلة، وهى أم الأولاد، وثانية للسفر والسياحة».

وعلَّقت: «أن هذا ترتيب عبقرى، لا يقدر عليه إلا ذوى العزم من الرجال، خصوصا إذا كانوا أصدقاء «بالالتصاق» مع رئيس الدولة».

ورد: «هذا بالضبط ما أريد أن أتحدث فيه معك، وقد أحسست أن الفرصة جاءتنى من السماء، عندما وجدتك على نفس الطائرة، وأمامنا أربع ساعات كاملة إذا سمحت لى «الهانم»، (يقصد قرينتى)، وبادلت ـ مؤقتا ـ مقعدها بمقعدى.

ورجوته ألا يقلق، لأن «هدايت» تعوَّدت على كثرة ما تأخذنى الأحداث منها ـ والمصادفات أيضا.

وجلس إلى جانبى، وأشار إلى السيدة التى وصفها بأنها زوجة السياحة والسفر وقال:

«إنها شابة وجميلة، ولديها فكرة عن الدنيا، ووجودها معى عندما لا أكون فى مصر أو إسبانيا يجعل حياتى شيئا آخر».

وأضاف: «فى مصر عيونهم مفتوحة على كل حركة، وفى إسبانيا (حيث تقيم زوجته أم الأولاد فكل واحد من الناس فى حاله)، ولكن العالم أوسع من مصر ومن إسبانيا!!».

وقلت له «إن تقسيمه للاختصاصات ـ جغرافيا ـ على هذا النحو مثير، وربما كان يعبر عن أسلوب رجل عمل فى المخابرات له حياتان: واحدة يراها بعض الناس، وأخرى يراها غيرهم».

ومرة أخرى فهم «حسين سالم» الإشارة وقال:

ـ إننى قرأت لك كل ما كتبت، ومعنى ذلك أننى أعرفك، وأما «سيادتك» فلا تعرف عنى إلا ما سمعته من غيرى، ومعظمه «تشويه مقصود»!!

وسألته:

ـ لماذا تتصور أنه «تشويه» وأنه «مقصود»؟!! ـ أنا شخصيا سمعت الكثير عما هو «مهم» وما هو «مثير»، وبعضه أيضا «خطير»!!

وسألنى عن معنى «مثير»، وقلت «إننى سمعت مثلا أنك المسئول عن توريد ملابس «مبارك»، وأنك ترتب لها مع محل «بريونى»، وقاطعنى يقول: «إن هذا بالضبط هو التشويه المقصود»!!

واستطرد: الحكاية لها أصل «عادى»، لكن التشويه المقصود خرج بها عن كل الحدود!».

وراح يشرح:

«أصل الحكاية أن الرئيس «مبارك» ـ ولعلمك فأنا أحبه كثيرا، وهو صديق من زمن طويل ـ كان يزور الإمارات العربية المتحدة لاجتماع مع رئيسها الشيخ «زايد»، وقاطع نفسه ليقول: «لابد أنهم قالوا لك إننى أعرف الإمارات جيدا، وعملت هناك لسنوات طويلة ممثلا لشركة النصر للتجارة، وهى كما تعلم إحدى شركات المخابرات» ـ ثم عاد إلى سياق حديثه:

كان الرئيس «مبارك» على موعد مع الشيخ «زايد»، ووصل الشيخ «زايد» إلى قاعة الاجتماع بعد الرئيس بدقيقتين، واعتذر للرئيس عن التأخير «بأنه كان مع جماعة «بريونى» (محل أزياء الرجال الإيطالى الشهير)، يجرون قياسا جديدا له، لأن قياسه الموجود عندهم لم يعد ملائما بعد أن فقد الشيخ «زايد» بعض وزنه)، وراح الشيخ «زايد» يستعجل خبراء «بريونى» (كما قال للرئيس)، لكنهم «كما تعرف فخامة الرئيس حريصون على شغلهم، يحسبون المقاسات بالمللى»، وأبدى «مبارك» إعجابه بذوق «بريونى» Brioni، وسأل عن إمكانية أن يعرضوا عليه ما لديهم ذات يوم، ورد الشيخ «زايد» بكرمه المعهود «ولماذا لا يفعلون ذلك، وأنت هنا فى «أبو ظبى»؟!! ـ والأمر لن يستغرق أكثر من ربع ساعة أول مرة، وسوف يصنعون «على مقاسك نموذجا بالحجم الدقيق، ثم يفصِّلون عليه، ولا تراهم مرة ثانية إلا عندما يجيئون إليك لتجربة نهائية بعد أن يفرغوا من صنعه، وفى كل الأحيان سوف تجده مطابقا ومضبوطا إلا إذا تغيَّر وزنك كثيرا، وفى كل موسم فإنهم سوف يرسلون إليك من عينات أقمشتهم أحسنها، وتختار من العينات ما يعجبك، وفى ظرف أيام يكون معلقا فى خزانة ملابسك، ثم هم أيضا مع كل «طقم» يرسلون إليك ما يناسبه من القمصان وربطات العنق».

وأعجب الرئيس «مبارك» بالفكرة، وتم ترتيب موعد يذهب إليه خبراء «بريونى»، حيث ينزل فى «أبوظبى» ـ فأخذوا مقاساته، واختار من عينات القماش عدة ألوان.

وقاطعته: كم قطعة اختار؟! ـ واحتار قليلا ثم أجاب: ثلاثين قطعة إذا كانت ذاكرتى سليمة ـ لا تنس أنه رئيس دولة، ثم إن المعروض عليه كان كثيرا، وهم يلحِّون عليه بتقديم أقمشة وألوان جميلة!!

هذه هى الحكاية ـ هذا هو أصل الحكاية ـ أصل الحكاية هدية من الشيخ «زايد» ـ وهذا ما أعرفه، بأمانة لا أعرف إذا كان الرئيس قد كرر الطلب من «بريونى»، وإذا كان فعل، فلم يكن ذلك عن طريقى!!

واستدرك «حسين سالم» «أنه تحدَّث معى بصدق ولم يخف شيئا، لأنه ـ ببساطة ـ لا يريد أن يلف ويدور على «رجل مثلى»!!

وشكرت له «حسن ظنه»!!

●●●

وقلت: «إننى أريد أن أسمعه فيما يقول، وأما التصديق فمرهون بالتفكير على مهل لاستيعاب الروايات والمقارنة بينها، وأنا لا أريد أن أخدعه بالتظاهر».

استطردت قائلا: «إننى سوف أترك هذه الحكاية «المثيرة» إلى غيرها».

ونظر إلىَّ باهتمام وقال: «إنه مستعد لأى سؤال»، وقلت: قيل لى من عدة مصادر أنك كنت المسئول عن اختيار هدايا أمراء الخليج إلى قرينة الرئيس.

ورد بسرعة بدون أن أكمل ما أريد، قائلا: «هذه أيضا لها أصل، ولكن عملية التشويه لحقت بأصل الوقائع».

واستطرد يسألنى: أنت تعرف قرينة الرئيس؟!!

وقلت: «إننى لم أتعرف عليها شخصيا، لكنى لا أنكر أننى فى وقت من الأوقات كنت أعلق أملا عليها، فقد كان تصورى وأنا أعرف أنها درست العلوم الاجتماعية فى الجامعة الأمريكية، واهتمت كثيرا بحى «بولاق»، وأجرت فيه أبحاثا ـ قد تكون عنصر توازن يكمل ثقافة زوجها، فهى تعرفت بالتدقيق على الواقع الاجتماعى فى البلد وتستطيع تذكيره به إذا كان نساه!!».

ومرة أخرى لم ينتظر «حسين سالم»:

قال وهو يقصد الكلام عن قرينة الرئيس: «إن «سوزى» ـ هكذا ـ سيدة ممتازة ولها ذوق رفيع، وهى على صداقة بأسر عدد من الحكام فى الخليج، وهى تزورهم وهم يزورونها، وبالطبع فإنهم كرماء فى هداياهم، وهى أيضا ترد لهم الهدايا»، واستدرك: «لكنها لا تستطيع أن تجارى».

على أن المشكلة التى ظهرت أنهم يختارون لها الهدايا قبل مجيئهم أو قبل ذهابها هى، وفى كثير من الأحيان تجىء الهدايا مكررة، وتتلقى قرينة الرئيس ـ نفس الشىء ـ نفس الطقم مرتين وثلاثة وأحيانا أربعة، وبالطبع فإن التنويع مطلوب، وكذلك «طلبوا» أن أرى الهدايا حتى لا تتكرر الأطقم، فعلت هذا بعض الوقت، لكن التكرار وقع برغم الاحتياط، ثم تقرر أن ترسل عينات الهدايا المقترحة إلى مصر قبل أى لقاء، وهناك يجرى الاختيار منها، بنظر من يعرف ما لديه، ويفضل جديدا غيره».

وعاد يسألنى: أين الخطأ هنا؟ ـ الناس هناك يحبون التعبير عن مشاعرهم بالهدايا، وهداياهم غالية، والهدايا لا يصح أن تتكرر، وإلا ماذا يفعل بها الذين يتلقونها، هل يلبسون نفس «الرسم» كل مرة، أو يبحثون عن طريقة تضمن التجديد؟ ـ هل تتخيل أن يجىء من نفس الطقم نسخا مكررة، وماذا يفعلون بها، وإذا باعوا المكرر واحتفظوا بنسخة واحدة من الرسم، ألا يثير ذلك انتقادات وحكايات وشائعات؟!!

●●●

وقلت له: دعنا من كل ما هو «مثير» فيما سمعت عنك، دعنا نتكلم عما هو «خطير» ـ أقصد موضوع السلاح!!

ومد بصره عبر نافذة الطائرة، وقال: هذه قمم جبال الألب أمامنا، والطائرة أوشكت على الهبوط فى «جنيف»، ولكن لا تظن أننى أتهرب من سؤالك ـ فأنا على استعداد للكلام فيه.

وأكمل يسألنى:

ـ ماذا لو التقينا على الغداء غدا، لنكمل الحديث؟!!

وقلت: إننى مدعو على الغداء غدا مع السفير المصرى فى «جنيف» (الدكتور «نبيل العربى»).

وقال: أعرف أنه «عديلك»، وقلت إن ذلك صحيح، وعلى أى حال فقد أستطيع إقناعه بتأجيل غدائه، وإذا رضى فسوف أقبل دعوتك.

واستأذن أن ينتقل إلى مقعده بجوار «زوجة السفر والسياحة» قبل هبوط الطائرة.

وعندما نزلنا إلى مطار «جنيف» كان السفير الدكتور «نبيل العربى» وقرينته فى استقبالنا، وقال لى «نبيل العربى»: إنه دُهش عندما وجدنى أخرج من الطائرة مع «حسين سالم»، واستأذنته وقرينته فى تأجيل غدائى معهما إلى اليوم التالى، ووافق الاثنان، وكلاهما يستطيع أن يفهم اهتماماتى ويقدرها.

والتفت إلىَّ «حسين سالم»، وقلت له إننى سوف أقبل دعوته غدا، وقال هو: إذن غدا فى فندق «الريزرڤ» La Reserve، وحاول «حسين سالم» مد الدعوة إلى «نبيل العربى»، لكن ذلك السفير اليقظ والمقتدر ـ اعتذر قائلا: «إنه يتصور أن بيننا حديثا، من الأفضل إتمامه على انفراد» ـ وقد كان!!

●●●

وكان واضحا لى من أول نظرة على المائدة التى وُضعت فى ركن بعيد من حديقة فندق «الريزيرف» ـ أن «حسين سالم» اتخذ من الترتيبات ما يجعل غداءه «مناسبة خاصة» ـ فقد كانت المائدة مُعدَّة بعناية ملحوظة، كما أن رئيس الخدمة فى الفندق كان واقفا بجوارها يُشرف على تهيئتها بنفسه، وإلى جوارها كانت مائدة يتوسطها حامل من الفضة عليه زجاجة نبيذ مفتوحة، لاحظت أنها «شاتولاتور 1949»، وأبديت دهشتى، فهذه زجاجة نبيذ لا يقل ثمنها عن عشرة آلاف دولار، وعلَّقت عابرا على نوع زجاجة النبيذ، ثم أضفت: «أنها خسارة لأنى لا أشرب»، وللإنصاف فقد رد قائلا: «ولا أنا» ـ وقلت: إذن لماذا فتحتها، وقال: «إن رئيس الخدمة (المتر دوتيل) رأى أن يفتحها مبكرا، لأن النبيذ المعتق يحتاج أن يتنفس الهواء»، وكان رئيس الخدمة قد نقل جزءا منها إلى إناء من الكريستال بقربه شمعة مشتعلة تشيع من حولها دفئا قبل صبها فى كئوس الشاربين. وقال «حسين سالم»: «لقد فتحها وانتهى الأمر» ـ ورجوته إبعادها عن المائدة، لأن وجودها بالقرب منا مستفز دون داعٍ، وأشار إلى رئيس الخدمة، وطلب إليه أن «يتصرفوا» فى النبيذ، وبدا الرجل مرتبكا، لكن «حسين سالم» طمأنه بصوت خفيض بما معناه (كما أظن) أنه سوف يدفعها ضمن الحساب، حتى وإن لم نستهلكها، وكان الرجل أكثر ارتباكا، لكن ارتباكه هذه المرة كان بالسعادة وليس بالقلق!!

ولم أشأ إضاعة الوقت، فقلت:

ـ على أى حال زجاجة نبيذ من هذا النوع ـ تغرى على الفور بموضوع تجارة السلاح!!

وقال على الفور: أنا لا أحب تجارة السلاح ـ ولم أدخل فيها، تجارة السلاح خطرة على من يقترب منها ـ وعلى من يتاجر فيها، أو حتى يكتب عنها، أضاف فيما أحسست به شبه تحذير:

ـ أرجوك ألا تكتب أبدا عن موضوع تجارة السلاح ـ لأنه مجال خطر، ومن يعملون فيه «قلبهم ميت»، لا يتورعون عن شىء!!

وقلت:

«إن كل مهنة لها مخاطرها، الصحافة بالطبيعة خطرة، والبحث عن الحقيقة فى أى مجال يعرض الباحث باستمرار لأصحاب المصالح، والمصالح فى السلاح مروعة، والاقتراب منها مروع أيضا».

ثم أضفت لطمأنته:

ـ «وأنا فى هذا اللقاء لست صحفيا، ثم إن اهتمامى هو بالسياسة أكثر منه بالسلاح!!».

وقال: «إنه أولا ولعلمى الخاص يريد أن يوضح أنه لم يدخل فى تجارة السلاح، وإنما دخل فى نقل السلاح، وهناك فرق كبير بين النقل، وهو عملية شحن بضائع، حتى وإن كانت سلاحا ـ وبين تجارة السلاح فى حد ذاته باعتباره هذه البضاعة!».

وقلت له: «إننى أريد فهم القضية أكثر مما يهمنى نشرها».

أضفت: «لكى أكون صريحا معك، فإننى بعد لقائنا فى الطائرة، اتصلت بمكتبى وطلبت أن يرسلوا إلىَّ صورا من بعض الأوراق التى حددتها لهم، وجاءتنى هذه الأوراق وراجعتها، وهى الآن معى فى السيارة التى جئت بها إلى هنا».

وسألنى إذا كان يستطيع أن يراها، لأنها سوف تساعد على تحديد ما أريد أن نتحدث فيه!!

واتصلت بسائق سيارتى أطلب إليه أن يجىء بمظروف تركته فيها، وكان «حسين سالم» يتابع حركة المظروف، ينتقل من يد السائق إلى يدى، ثم يتابع حركة يدى، وأنا أستخرج مجموعة أوراق ناولتها له.

●●●

كانت الأوراق التى سلمتها له مجموعة وثائق:

1ـ حكم استئناف الدائرة الرابعة فى القضية بتاريخ 4 نوفمبر 1983، والقضاة فيها ثلاثة هم: «رسل» و«فيلبس» و«مور ناجان»، وهم مكلفون بالنظر فى دعوى رفعتها الحكومة الأمريكية على مجموعة من الشركات يمثلها المستر «ادوين بول ويلسون»، وضمن منطوق الحكم ذكر لشركة «ايتسكو» Eatsco، وهى شركة يملك «حسين سالم» 51% من أسهمها، كما يرأس مجلس إدارتها خمسة رجال يحملون أسماء نافذة فى مصر، وكلهم فى صميم القرار السياسى، والشركة طبقا لعريضة الاتهام تولَّت عمليات نقل أسلحة أمريكية إلى الشرق الأوسط، وفى الإشارة ما يوحى بالشبهات فى عملية بين هذه المجموعة وبين شركات السلاح، ثم صلة صحيفة الدعوى وقد تردد فيها ذِكر وكالة المخابرات المركزية، وأخيرا معلومات عن تلاعب فى الفواتير.

2ـ نص حكم قضائى آخر صادر ضد شركة «ايتسكو» بالتحديد، والشركة متهمة بالاسم، ومقدم الدعوى وزارة الدفاع الأمريكية التى حصلت فيها على حكم، بعد أن أثبتت أن الشركة «غالطت» الحكومة الأمريكية فى مبالغ بملايين الدولارات، أضافتها بالتزوير إلى فواتير نقل السلاح.

وقد صدر الحكم غيابيا على «حسين سالم» ـ إلا أنه سارع إلى مغادرة الولايات المتحدة قبل إعلانه.

وأصدر مكتب النائب العام الأمريكى أمرا بالقبض على «حسين» إذا وصل إلى أراضيها.

3ـ مجموعة مقالات للصحفى الأمريكى الشهير «چاك أندرسون»، نشرتها جريدة الواشنطن بوست، عن قضايا تجارة السلاح.

ـ أولها بعنوان «عقود السلاح ـ الفضيحة تطبق على الرؤساء فى مصر!!».

واسم «مبارك» موجود فى المقال فى معرض تقرير وصل إلى الرئيس «السادات» عن تردد اسم اللواء «منير ثابت» (مدير مكتب المشتريات العسكرية فى واشنطن) مع اسم «حسين سالم» فى سياق أرباح وعمولات تتصل بـ«نقل الأسلحة»، ويشير «چاك أندرسون» فى مقاله صراحة إلى برقية من وزارة الخارجية الأمريكية بتاريخ 2 يوليو 1979 تخطر الخارجية: «بأن الرئيس «السادات» كلف «حسنى مبارك» بالتحقيق فى التقرير».

لكن السفارة الأمريكية فى القاهرة ردت فى اليوم التالى ببرقية تقول فيها: «إن مصادرها أكدت لها أن نائب الرئيس سوف يغطى على التحقيق، لأن «منير ثابت» هو شقيق زوجته، وأن «مبارك» ساعد على ترقيته من منصب مساعد الملحق العسكرى فى واشنطن، إلى منصب مدير مكتب المبيعات العسكرية الأمريكية لمصر.

وتطرق المقال إلى ذكر «حسين سالم» وشركة «ايتسكو».

ـ وكان المقال الثانى لـ«چاك أندرسون» أيضا تحت عنوان «فلسطينيون يسيطرون على مبيعات السلاح إلى مصر»، وكانت الإشارة إلى رجل أعمال من أصل فلسطينى، يعيش فى الإمارات، وتربطه شراكة مع «حسين سالم»، وفى المقال أن «مبارك» ـ الذى أصبح رئيسا لمصر ـ وكذلك أنت (موجها الحديث مباشرة إلى «حسين سالم») ـ شركاء فى صفقات سلاح تتم فى الغرف الخلفية، وأن وكالة المخابرات الأمريكية على علم بالتفاصيل، بل إنها تدخلت فى بعض اللحظات ـ للتسهيل والتشهيل!!

4ـ وكانت الوثيقة الأخيرة تقريرا عن سفينة شحن اسمها «بوميه» تناوبت على تأجيرها شركات إسرائيلية، وكذلك أجَّرتها شركة «ايتسكو»، وتلى ذلك تفاصيل فيها ذكر لأسماء مسئولين مصريين شاركوا فى عمليات تجارة الأسلحة، من «نيكاراجوا» إلى «أفغانستان» إلى «إيران»، وفى مقابل عمولات طائلة، وكانت الإشارات إلى «حسين سالم» متكررة، كما أن الإشارات إلى شركة «ايتسكو» وإلى علاقاته بمسئولين مصريين كبار، ظاهرة فى حركة نشيطة واصلة من «واشنطن» إلى «مدريد» إلى «القاهرة» إلى بلاد أخرى بعيدة.

وفرغ «حسين سالم» من تقليب الأوراق، ثم كان أول تعليق له:

«الأمريكان أولاد الـ(...) هدفهم بالدرجة الأولى ابتزاز السياسة المصرية، وتصوير الأمور بما يوهم الناس بأن لديهم وسائل للسيطرة Control على مسئولين مصريين.

ثم بدأ يدخل فى تفاصيل كثيرة عن صفقات سرية لبيع السلاح، وكان تركيزه بالدرجة الأولى أن معظم هذه الصفقات لصالح المجاهدين فى أفغانستان.

●●●

وفوجئت به يوجه إلىَّ سؤالا: عما إذا كنت ضد تسليح المجاهدين فى أفغانستان؟!!

وقلت إننى لا أريد أن أتشعب بالحديث إلى موضوعات نستطيع أن «نغرق» فيها حتى الصباح!!

وقال:

«إنه يعرف أننى مهتم بالسياسة، ثم إننى لا أعرف «مبارك» بما فيه الكفاية، وهو يريدنى أن لا أظلم الرجل، فليس عيبا أن الرجل اقترب بوظائفه فى لحظة من اللحظات من موضوع السلاح.

وربما خطر له شىء، لقد كان على وشك انتهاء خدمته فى سلاح الطيران، ولم يكن يعرف أن الرئيس «السادات» سوف يختاره نائبا له، ومن الطبيعى أن يفكر الرجل فى مستقبله ومستقبل أولاده، وأن يبحث فى الخيارات المتاحة له، لأنه سيخرج وهو بالكاد فى الخمسين من عمره.

وأنا لا أقطع بشىء، ولكن لاحظ أن الرجل كان قريبا من موضوع السلاح للدول العربىة، وأقول لك إنه ربما ـ ربما خطر له الاشتراك مع بعض زملائه فى شىء ـ أنا أقول ربما ولا أقطع بشىء ـ هذا ما أستطيع أن أقوله ـ وأكثر منه لن أقول شيئا»!.

وكان واضحا أنه بلغ نقطة لا يستطيع أن يتزحزح بعدها.

●●●

وانتقلت بالحديث إلى بيع الغاز لإسرائيل، ولم تكن الاتفاقيات الكبرى قد عُقدت بعد، ولا خط الأنابيب قد امتد مساره عبر سيناء، وقال «حسين سالم»:

«نعم عقدت صفقات غاز لإسرائيل، الغاز يظهر فى مصر بغزارة، ونستطيع أن نصدره».

وسألته عن الأسعار، واستغربت رده:

«عقدت صفقات مع إسرائيل لها دواعيها السياسية وهى أكبر منى، وأما الغاز لإسبانيا، فلأنى مدين للإسبان، فقد أعطونى الجنسية الإسبانية، ورحبوا بى وبعائلتى هناك، وأكرمونا فى الحقيقة، وكان لابد أن أرد لهم الجميل!!».

وكان آخر مشهد ظهر فيه «حسين سالم» على الساحة المصرية هو ركوبه لطائرته الخاصة من مطار «شرم الشيخ» بعد أيام من قيام ثورة 25 يناير، ومعه مجموعة صناديق تحتوى على 450 مليون يورو نقدا وجديدة، ولا تزال بنفس التغليف الذى صُرفت به من البنك المركزى الأوروبى، وحطت طائرة «حسين سالم» فى مطار «أبوظبى»، وفى مطار «أبوظبى» لاحظ مأمور المطار هذه الصناديق، وأدرك على الفور أنها أوراق نقد، وأخطروا بالأمر سلطات مسئولة فى «أبوظبى»، وصدر قرار بالاتصال بالقاهرة لسؤالها فى الموضوع، وكان «مبارك» شبه معتزل فى «شرم الشيخ»، لكنه لم يكن قد «تخلَّى» عن السلطة بعد ـ وجرى الاتصال بنائبه الجديد السيد «عمر سليمان»، وأشار النائب بالإفراج عن الرجل، وعدم إثارة ضجة فى الوقت الحاضر حول الموضوع، لأن الظرف حرج، وسأل بعض المسئولين فى الإمارات شخصيات مصرية عما يمكن التصرف به حيال الموضوع، وكان بينهم نائب رئيس الوزراء المصرى السابق، ووزير الصناعة والتجارة فى مصر السيد «رشيد محمد رشيد»، وكانت نصيحة «رشيد» وغيره ـ إيداع المبلغ مؤقتا فى البنك المركزى للإمارات، والاتصال مع السلطات المصرية للبحث عن الأصل فى هذا الموضوع، وكيفية التصرف حياله.

وقد سألت المهندس «رشيد محمد رشيد» ـ فيما بعد ـ عندما قابلته فى عاصمة أوروبية عن صحة الرواية، واستأذن الرجل «أن أبقيه بعيدا عن هذا الموضوع»، لأن لديه من المشاكل ما يكفيه، وإن استفاض فى الحديث عن غيره من الموضوعات، وأهمها روايته عن الأيام الأخيرة لنظام «مبارك» فى مصر، وللأمانة فإنى لم أستأذن الرجل فى نشر ما أشرت إليه الآن مما ورد فيه اسمه، فحين قابلته لم يكن فى تقديرى أننى سوف أكتب هذه الصفحات، وكذلك لم أستأذنه!!

وعلى أى حال فقد انقضت الآن أيام وأسابيع وشهور، وظهرت أخبار كثيرة فى صحف مصرية وخارج مصر عنها، لكن الغموض ما زال يكتنف مصير صناديق الربعمائة وخمسين مليون يورو، ومن هو صاحبها الحقيقى؟! ـ وماذا جرى لها؟! ـ وأسئلة أخرى بغير نهاية!!

التعليقات