هل كان هناك «معرض كتاب» عند الفراعنة؟.. الحكاية كاملة

عندما أراد الحكيم "دوا- خيتي"، أن يسدي نصيحة  إلى ابنه "بيبي"، وهو يرافقه في رحلته إلى المدرسة، قال له "يا بُني.. لا يوجد ما هو أثمن من الكتاب، وعليك أن تحبه كأمك". بقفزة زمنية هائلة قدرها آلاف السنوات على هذا المشهد المدوّن في تعاليم "خيتي"، التي وصلتنا من المصريين القدماء، سنجد كيف تحظى صورة "الكاتب المصري" القديم بأهمية الآن، ولأن الصورة هي الشعار الرسمي للهيئة العامة للكتاب، الذراع الرئيسية للدولة في الإنتاج الثقافي. فإن ثمّة مفارقة بسيطة، هي أن الكاتب المصري  بجلسته الهادئة تلك على مداخل وقاعات وشعارات معرض القاهرة الدولي للكتاب، يطل من الزمن السحيق على الملايين من أحفاده وهم يتجولون في جنبات الحدث الثقافي الأبرز سنويًا.

في مناسبة معرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الاستثنائية رقم 52، نروي حكاية الكتب والكتابة عند المصريين القدماء، وكيف كان شكل المكتبات في عصر الأجداد، وهل كان لديهم "معرض كتاب" مثلما هو الآن؟ من واقع كتاب "تاريخ الكتاب"،  لألكسندر ستيبتشفيتش، الجزء الأول، والصادر عن سلسلة عالم المعرفة 1993، بترجمة محمد الأرناؤوط.

 

إما الكتابة وإما ستكون  "ثورًا يقوده الآخرون"

بحسب النصوص التي وصلتنا، يقول المصري القديم في تمجيد الكتب والكتابة: "لقد مات الإنسان وتحولت جثته إلى مسحوق وأصبح كل معاصريه تحت التراب. إلا أن الكتاب هو الذي يُنقل ذكره من فم إلى فم. إن الكتابة أنفع من البيت المبني ومن الصومعة في الغرب ومن القلعة الحصينة ومن النُصب في المعبد".

بعبارة أخرى، فإن الآباء والناصحون الكبار، ووميض الحماس يلمع في عيونهم، كانوا يتحدثون بحفاوة عن أهمية أن يكون الإنسان كاتبًا، فيقولون لحث الصغار على الأمر: "إنك تسير بحرية في الطريق ولن تكون ثورا يقوده الآخرون. إنك في مقدمة الآخرين كلهم".

وفقا  للمؤلف لألكسندر ستيبتشفيت، كانت معرفة القراءة والكتابة  تعني لكل مصري تأمين مركز ممتاز في المجتمع، إذ كان "الطريق مفتوحا أمام الكاتب الماهر إلى أعلى المناصب في الدولة".

رغم ذلك، فإن ستيبتشفيتش يشير إلى أن تعلم الكتابة في مصر القديمة لم يكن بالأمر السهل الذي ينتهي منه المرء بسرعة، وسبب ذلك أن الكتابات المعقدة التي كان يستعملها المصريون كالهيروغليفية (منذ الألف الرابعة ق. م) والهيراطيقية (منذ الألف الثالثة ق . م) والديموتيقية (منذ القرن السابع ق. م) كانت تتطلب تدريبا طويلا متأنيا وهو ما كان يصاحبه في كثير من الأحيان تأنيب الوالد والمعلم وحتى الضرب بالعصا.

ما يشبه عملية فرز معقدة كانت تتم إذن بين التلاميذ، فكان المتميزون منهم فقط يستطيعون بأريحية أن يحلموا بتقلد المناصب الرفيعة في الدولة، مثل العمل الدبلوماسي أو في قصور الحكوم، فيما كان مصير الآخرين الأقل تميزا، أن يرضوا بالعمل في وظائف دواوين الدولة.

كان منطقيًا إذن طالما أن الأمر صعب للغاية بمقدار ما يفتح بابا للترقي الاجتماعي، أن يستعين الآباء والأبناء التلاميذ بمساعدة "الإله توت"، الذي عُرف في مصر القديمة على أنه مخترع الكتابة ومعلمها الأول، وهو بطل البوستر الرسمي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب 2021.

 

مؤلفات "إدارية" بالجملة.. نصوص أدبية "بالطلب".. و"كتاب الموتى" الأكثر رواجًا

هذا التقدير من جانب المصري القديم للكلمة المكتوبة لم يكن منبعه فيما يبدو العمل الثقافي بالمعنى المعروف، بحسب ستيبتشفيتش، الذي يقول إن الأمر "لم يكن يثير الرغبة في الشرائح الواسعة للمجتمع بقدر ما كانت الرغبة في تأمين منصب اجتماعي يضمن الامتيازات".

بسبب ذلك، ورغم عبقريتهم في التشييد والتحنيط وفنون أخرى شتى، كان المصريون نادرا ما يكتبون مؤلفات في المعارف مثل الفلك والرياضيات، لأن المعرفة كانت تنتقل شفهيًا من جيل إلى آخر، بحسب المؤلف.

ما هي نوعية الإنتاج إذن؟ يقول ستيبتشفيتش إن أغلب ما كتبه الكتاب في مصر القديمة ذو طابع إداري، مبيّنًا: "كانت الدولة هي التي تنظم وتمول المدارس لتخريج الكتاب لأنها كانت تحتاج إليهم بالذات لممارسة الأعمال الوظيفية وما شابه ذلك".

مع ذلك، لم يكن وقت الكتاب كله مخصصا للكتابات الإدارية فقط، إذ كان ثمّة متسع لنسخ النصوص الدينية والأدبية، خاصة العمل الأشهر على الإطلاق: "كتاب الموتى"، وهو الكتاب الذي كان يُنسخ بكميات كبيرة ويُطرح للبيع. وهو نصوص مختلفة تتعلق بالدين والسحر تؤمن للمدفون الراحة في الحياة الأخرى، لذا كانت توضع معه في القبر.

كانت كتب الموتى تُكتب من قبل الكهنة، وكانوا يتركون في النسخ المعدة للبيع بالأسواق مكانا فارغا ليُكتب فيه اسم الشخص المتوفي. وكانت تباع بالفعل. غير أن ستيبتشفيتش يشير إلى أن الكتب الأدبية، مثل قصة سينوحي أو الفلاح الفصيح كانت تُنسخ بناءً على طلب الأفراد وليس للبيع في الأسواق.

 

الكتابة على "الرق" وجدران المعابد.. والبردي الأشهر

على ماذا كان يدوّن المصريون القدماء كتابتهم إذن؟ يقول ستيبتشفيتش إن الكتابات الهيروغليفية الجميلة وصلت إلينا مسجلة على الحجارة المسطحة للمعابد وعلى المقابر وبقية المنشآت ثم على الخشب، مشيرًا إلى أن الأجداد كانوا نادرا ما يكتبون على المواد الطرية.

كان المصريون نادرًا ما يستعملون الألواح الخشبية للكتابة، وحتى إذا استعملوها فقد كانوا يتركونها لكتابة النصوص القصيرة.

كانت "الرق"، وهي مادة غالية الثمن تُستخرج من الطبقة الداخلية لجد الحيوانات وهي طازجة، إحدى وسائلهم للكتابة، غير أن ذلك كان يتم في حالات خاصة للغاية، مثل تدوين بعض وثائق الدولة التي لها أهمية خاصة.

ويلفت ستيبتشفيتش إلى أن أقدم خبر عن استعمال الرّق للكتابة يعود إلى الأسرة الرابعة (2500 ق. م)، بينما كان أقدم نموذج للرق المستعمل للكتابة يعود إلى الأسرة الثانية عشرة (2000- 1800 ق. م). ثم بقي يستعمل للكتابة من حين إلى آخر حتى أواخر عهد الدولة المصرية.

نأتي إلى البردي، وهو المادة الأكثر انتشارًا في الكتابة، إذ اُستعملت للكتابة طوال الحضارة المصرية القديمة. ويسوق المؤلف هنا إلى دلائل تثبت أنه اُستعمل منذ عهد الأسرة الأولى في بداية الألف الثالثة ق. م، لافتًا إلى أن أقدم نموذج من ورق البردي يعود إلى زمن الفرعون نفريركر من الأسرة الخامسة.

بعد ذلك، أصبح البردي ذا قيمة اقتصادية واضحة، إذ كان "سلعة مهمة للتصدير في البلدان المجاورة مثل فينيقيا وسوريا منذ القرن الحادي عشر ق. م، ثم في اليونان وروما حيث ساد كمادة إلى أن حل محله الرّق أولا ثم الورق أخيرا خلال القرون الوسطى".

ورق الكتابة الأشهر في عهد المصريين القدماء وصل إلينا بعد آلاف السنين بفضل المناخ المصري الملائم، وخاصة في المقابر كما في بقايا المعابد وحتى في البيوت الخاصة. ويوضح المؤلف أن الكتاب المدون على ورق البردي في مصر أخذ دائما شكل اللفافة، وبقي الكتاب على هذا الشكل حتى في العهود اللاحقة كاليوناني والروماني.

نقطة مهمة يكشفها ستيبتشفيتش الذي يتساءل: كيف كان الأميون – وهم الغالبية – يفهمون هذه الكتابات؟ قبل أن يجيب: "بفضل الأشكال التصويرية من نقوش جدرانية على مواد صلبة أو رسوم بألوان متعددة على مواد طرية كانت تصاحب النصوص".

 

الأقلام نباتية.. الحبر أحمر وأسود.. و"محفظة الكاتب" من المرمر 

من عصر تسيطر فيه لوحة المفاتيح بأجهزة الكمبيوتر "الكيبورد" مزيحًا الاستخدام التقليدي للأقلام، يملع السؤال: بأي شيء كان المصريون القدماء يكتبون؟

يشرح ستيبتشفيتش أنهم استعملوا أقلامًا صنعوها من نباتات كانت تنمو في المستنقعات يتراوح طولها بين 16- 23 سم، بعد أن يقطعونها بشكل مائل في أحد أطرافها ثم يُبرى رأسها إلى أن يسمح بالكتابة الدقيقة جدا.

نوعان من الحبر، الأول أسود والثاني أحمر، كانت سنون هذه الأقلام تٌغمس فيها، قبل أن تتهادى الأقلام بين أيدي الكتبة على ورق البردي أو مواد التدوين الأخرى.

ثمّة تفصيلة يشير إليها المؤلف، تكشف إلى أي مدى كانت مهنة الكتابة تحظى بذلك النوع من التنظيم والاهتمام، وهي أن الأقلام كانت تحفظ في محفظة خاصة مصنوعة من القصب، أو في علبة مستطيلة من الخشب، بل إنهم كانوا يحفظونها في علب مصنوعة من العاج أو من المرمر. وفي تلك المحافظ كانت توجد محبرتان، واحدة للحبر الأسود وواحدة للحبر الأحمر.

كل ذلك كان ضمن ما يسمّيه "عدّة الكاتب"، والتي كانت تحوي أيضًا كيسًا صغيرًا من الجلد للماء المخصص لتمديد الحبر قبل استعماله، أو لمسح كلمة مكتوبة بالخطأ أو لمسح رسم مرسوم بشكل شيء.

أخيرًا، فإن طريقة الكتابة لم تكن أمرًا عشوائيًا عند المصريين القدماء، إذ كان الكتاب يركعون على القدم اليسرى ويستندون على القدم الأخرى بيدهم اليسرى التي تحمل اللفافة، كما كانوا يجلسون القرفصاء، بالضبط مثلما هو مجسّد في تمثال الكاتب في متحف اللوفر بباريس.

 

الكتاب على هيئة "لفافة".. والمكتبة "جرة فخار"

اللفافة هو الشكل المفضل والأشهر لحفظ الكتب عند المصريين القدماء، وهذه كانت تُحفظ في صناديق خشبية أو في جرّات من الفخار، مثل تلك الصناديق المزينة التي عُثر عليها في المقابر، وبداخلها لفافات تحتوي على نصوص طبية وجغرافية وقصة سنوحي ونصوص أدبية أخرى.

كما أنه بالقرب من سقارة بالفيوم، اُكتشفت جرة فخار تحتوي على نصين، الأول قانوني والثاني طبي، وفي تل العمارنة بالمنيا تم اكتشاف لوح من البورسلان موجود في المتحف البريطاني حاليا، مدوّن عليه اسم الفرعون أمينوقيس الثالث واسم زوجته تييا، وعنوان لافت لكتاب باسم "كتاب التين والزيتون".

يخلُص ستيبتشفيتش إلى أن الكتاب في مصر القديمة كان ملكا للحاكم وزوجته، وكان لهؤلاء بالطبع مكتبة خاصة توُضع لهما في صندوق مزين إلى جوار جسديهما داخل المقبرة.

 

لماذا لم يترك الأجداد "مكتبات عامة"؟

يحصي مؤلف "تاريخ الكتاب" نسبة كتب الموتى عند المصريين القدماء من بين كل ما حفظه لنا الزمن من الكتب المدونة على ورق البردي؛ بـ95 %، مشيرًا إلى أن هذه النوعية من الكتب تحديدًا كانت تنسخ كثيرا ولم تكن مخصصة للقراءة، في حين كانت بقية الكتب الشهيرة نوعا ما تُنسخ للمثقفين الذين كانوا يشكلون دائرة ضيقة نسبيا.

ويكشف ستيبتشفيتش أن عددًا نادرًا من الأشخاص في مصر القديمة كان لديهم مكتبة خاصة، وحتى هذه كانت تحتوي على قدر متواضع من الكتب.

لماذا هذه الندرة في عدد المكتبات إذن في مصر القديمة؟ يجيب ستيبتشفيتش بأن هذا راجع إلى الإنتاج المحدود للكتاب، وعدم تطور تجارة الكتب، بالإضافة إلى انحصار الكتابة على الكهنة والطبقة البيروقراطية.

ويلفت أخيرًا إلى أنه باستثناء ما كان في حوزة بعض الأفراد، فإن الكتب كانت تُحفظ في المعابد، أو في المدارس التابعة لتلك المعابد، ثم في قصور الحكام.

التعليقات