في عشق اللائحة

من العبث الأزلي أن تظل طوال عمرك تبحث عن شئ فقدته يوما في قطار أو أن تعلم أسدا أن الفول النابت ألذ مذاقا من لحوم الغزلان الطازجة أو أن تطلب من موظف بكلية الإعلام أن يعطيك نسخة من اللائحة.

واللائحة لمن لا يعرف هي أحد أهم الوثائق في العالم، يعتبرها بعض الأثريين أهم من المخطوطات المحفوظة في مكتبة الفاتيكان، لذلك، لا يوجد منها إلا نسخة واحدة يحتفظ بها شخص ما في الكلية، يضعها في درج مكتبه، يغلقه، ثم يتغيب عن العمل دائما حتى يحافظ سريتها وقدسيتها، ويحميها من التعرض للبشر!

تخيل نفسك إذا انتابتك فجأة الرغبة في مطالعة اللائحة، تذهب إلى الكلية، تدخل من بابها وعزم العالم في عينيك، علامات الإصرار في وجهك ترهب جنود هتلر، ثقة بلا حدود تملأ وجدانك وصدرك مفعم بالأمل اللا متناهي، تنزل السلم المؤدي إلى مكاتب الإرشاد وشئون الطلاب، تسأل أحد موظفي الإرشاد عن اللائحة.

موظفو الإرشاد كثيري التعامل المباشر مع الطلاب لذا لا يفاجأ أيا منهم بأي سؤال، على العكسمن باقي الموظفين المضبوطين على "وضع الماجأة".

يقابل موظف الإرشاد سؤالك البريء بالترحاب ويبدأ في البحث عن اللائحة، لكنه لا يجدها، ومن منا يجد ما يريده في هذا العالم!

-مش لاقيها

-طب والحل، ألاقيها فين ؟

-روح وحدة ضمان الجودة هتلاقيها هناك

نفس البراءة والأمل مايزالا في عينيك، تتصاعد منك آه تند عن تصميم وإحساس باقتراب الرجاء، مسكين أنت في حماستك الهوجاء المثيرة للشفقة. لو طلبوا منك في هذه اللحظة أن تنقل الهرم الأكبر من مكانه لفعلت من فرط الاندفاع.

أنت الآن على أعتاب غرفة وحدة ضمان الجودة وأنا أعرف جيدا تلك النظرة في عينيك.. نظرة واثقة منتصرة، مسكين أنت في أحلامك يا صغيري العزيز.

-لو سمحت عايز نسخة من اللايحة

-مش موجودة

-طب هتيجي امتى إن شاء الله؟!

-نعم ؟!!

-أقدر أشوفها إزاي يعني؟

-هي مع المدير وهو مش موجود

تعرف أن هذا الشخص لا يعرفك وبالتالي لا يوجد أدنى نسبة من الاحتمال في أنه يداعب طموحاتك لكن خيالك القاصر لا يمكنه أن يتعدى ذلك الاحتمال.

-يعني هي نسخة واحدة في العالم قفل عليها ومشي؟ أكيد في حل

-كلمه

-هات رقمه

-خده من مكتب العميد

جدل عقيم لا يؤدي إلى شيء هو ما يدفعك لترك المكتب وما بين السباب بألفاظ يحرمها الدين والقانون والاستغفار المتكررين المتتابعين تخطر ببالك فكرة.

العميد أصلا لا يأتي إلى الكلية إلا فيما ندر، ربما أندر من وفاء أي وزير بتنفيذ مشروع قومي، حتى تكاد تشعر أن عدم الحضور من مهام وظيفته. بالطبع لن تسرق النسخة من مكتبه، ستطلبها من مدير مكتبه، مسكين أنت في طلباتك البسيطة.

-لو سمحت عايز نسخة من اللايحة

-مش موجودة

شعورك بأن هذه الإجابة هي نفسها الموجودة في النموذج لا يمكن تكذيبه، اقلب الكتاب وانظر خلفه لتتأكد من ذلك، ومع طول الحوار الذي تعلم منذ مطلعه أنه لا فائدة وأن القفل الذهبي قد وضع على الباب يلوح الآن في عينيك بقايا الأمل، ولا يبقى أمامك إلا أن تخوض التجربه.

هو حل لا يلجأ إليه إلا من ارتكن ظهره إلى الحائط وأصبح بلا أي بدائل أخرى.

كم أضحك الآن أيها الحزين وأنا أراك تخرج من باب مكتب العميد، تنعطف يسارا متجها إلى مكاتب الوكلاء، تقف أمام بابا أسودا مغلقا وقلبك تملأه الرهبة من جلال الموقف.

خلف هذا الباب توجد إلهة اللائحة عند الفراعنة وذلك المكتب هو بمثابة المعبد المخصص لعبادتها تم بناؤه في عصر الدولة الوسطى.

إلهة اللائحة هو تمثال من الجرانيت لسيدة على وجهها ابتسامة وقور وعليها نقوش لوائح نحتها فنان فرعوني بمنتهى المهارة، وفي قدس الأقداس تجد أكواما من اللوائح المكدسة في كل مكان.

رهبتك تزداد من جلال الموقف، فحضرة الآلهة ليست بالموقف السهل، تسأل في أدب ورأسك مطأطأ:

-عايز نسخة من اللايحة

الإبتسامة لا تتغير و لا تتبدل، فليس خليقا بالآلهة العبوس، وفي مزيج من الوقار والمحبة الخالصة والسعادة اللا منتهية تخبرك أنها لا تملك نسخة من اللائحة وأن آمون إله الشمس قد غضب عليها فحرمها من اللائحة لتظل طوال عمرها تحرس اللائحة التي لا تعرفها*.

الآن أقدر تلك الدموع التي تنهمر من عينيك ليس حزنا ولكن تقديرا لهؤلاء الذين يخلصون للائحة وما يبذلونه من جهد لحمايتها حتى ولو على حساب اللائحة نفسها عملا بمبدأ

"حماية اللائحة والحفاظ عليها أهم من العمل بها".. وكله بالقانون.

---------------------------------------------------------------------

*أسطورة قديمة تقول أن نزاع نشأ بين إلهة اللائحة و إله الشمس على أثره قرر إله الشمس معاقبتها هذا العقاب القاسي.

لكن بعض الأثريين يشككون في صحة هذه الواقعة بدافع أن التاريخ المصري ليس به أساطير صراع بين الآلهة وأن هذه الرواية فريدة في نسج التاريخ المصري مما يجعلهم يذهبون إلى التفسير القائل بأن الواقعة مدسوسة أو مقتبسة من التاريخ الإغريقي وأن إلهة اللائحة هي التي أضاعت نسختها.

التعليقات