في وداع "عدوية".. حكايات أيقونة الغناء الشعبي الذي "تجاوز حدود الزمن"

في رحلة استثنائية امتدت لعقود، استطاع أحمد عدوية أن يحفر اسمه بأحرف من ذهب في ذاكرة الفن المصري والعربي، ليُشكل حالة استثنائية في الطرب الشعبي، ليرحل عن عالمنا عن عمر ناهز 79 عامًا، تاركًا إرثًا فنيًا خالدًا يتجاوز حدود الزمن. أعماله لم تكن مجرد أغانٍ، بل تجسيد لوجدان الشارع المصري وروحه، بصوته المميز وأدائه الصادق، سيظل مصدر إلهام للأجيال القادمة، وركيزة أساسية في تاريخ الغناء الشعبي المصري.

وُلد عدوية في 26 يونيو 1945 بمحافظة المنيا، وسط أسرة كبيرة مكونة من 14 أخًا وأختًا، ليصبح الابن قبل الأخير في عائلة حملت ملامح البساطة والصمود، وهي السمات التي انعكست لاحقًا في شخصيته ومسيرته الفنية.

بدأ أحمد عدوية مشواره الفني في قلب القاهرة، حيث غنى في المقاهي الشعبية منها مقهى الآلاتية بشارع محمد علي، الذي كان آنذاك مسرحًا رئيسيًا للمواهب الصاعدة، عبر الأفراح الشعبية والحفلات الصغيرة. نجح في جذب الأنظار إلى موهبته الفريدة، وكانت الانطلاقة الحقيقية له عام 1972، عندما أذهل الحضور بصوته وأدائه في حفل عيد زواج المطربة شريفة فاضل، ليصبح بعدها حديث الساحة الفنية.

حمل عدوية لواء الأغنية الشعبية، ولكنه أضاف إليها لمسة معاصرة جعلتها قريبة من كل الأجيال. بأغانٍ مثل "زحمة يا دنيا زحمة" و"السح الدح إمبو"، استطاع أن يخلق حالة فنية استثنائية تمزج بين الأصالة والتجديد. لم تكن أغانيه مجرد كلمات تُغنى، بل تحولت إلى أيقونات موسيقية تمثل روح الشارع المصري.

لم يقتصر تأثير عدوية على الغناء فقط، بل امتد إلى السينما والمسرح، حيث قدم أدوارًا فنية غنائية وتمثيلية أضافت بعدًا جديدًا لمسيرته. بل إن نجاحه الغنائي جعل صناع السينما يستفيدون من وجوده في الأفلام، فقد شارك في العديد من الأفلام يصل عددها إلى سبعة وعشرين فيلمًا. وعلى الرغم من اعترافه الدائم بأن الغناء هو شغفه الأول والأخير، إلا أن حضوره على الشاشة كان دائمًا لافتًا ومميزًا.

أحدث أحمد عدوية تحولًا في عالم الغناء الشعبي المصري، حيث قدم مجموعة من الأغاني التي أثرت في وجدان الجمهور وما زالت تُسمع حتى اليوم، ومن أبرزها أغنية "بنت السلطان" التي صدرت عام 1969، ولا تزال تحتل مكانة خاصة في قلوب عشاق الفن الشعبي.

"بنت السلطان" والصدفة التي صنعتها

تُعتبر أغنية "بنت السلطان" واحدة من العلامات المميزة في مسيرة أحمد عدوية. كتب كلماتها ولحنها الشاعر حسن أبوعتمان، الذي كان يعمل "حلاقًا" خاصًا بعدوية. وبمحض الصدفة، اكتشف عدوية موهبة أبوعتمان الشعرية، ليغني كلمات الأغنية التي أصبحت لاحقًا من أشهر أعماله، وإحدى الأيقونات في تاريخ الأغنية الشعبية.

تحدث عدوية عن أغنية "بنت السلطان" في لقاء تلفزيوني قائلًا: "أنا عاشرت أمراء وسلاطين وكنت دايمًا في أجواء راقية. اسمي السلطان، وأغنية بنت السلطان كانت تعبيرًا عن كل بنات الناس، سواء بنت أمير، خفير، أو سلطان. كلها عندي بنت السلطان".

ثورة في عالم الغناء الشعبي

أحمد عدوية لم يكن مجرد مطرب شعبي، بل قائدًا لثورة موسيقية أثرت على شكل الأغنية الشعبية في مصر. بفضل صوته المميز وأسلوبه الفريد، نجح في المزج بين الأصالة والتجديد، ليُقدّم لونًا غنائيًا شعبيًا استطاع الوصول لكل الفئات الاجتماعية.

"بنت السلطان" ليست مجرد أغنية بل حكاية تُجسّد صداقة مميزة بين مطرب وشاعر، وصورة لما يمكن أن تصنعه الصدفة من نجاحات خالدة في عالم الفن.

عودة متجددة

غاب عدوية عن الساحة لسنوات لكنه عاد ليبهر جمهوره مرة أخرى. في عام 2010، كان تعاونه مع الفنان رامي عياش في أغنية "الناس الرايقة" علامة فارقة في مسيرته، حيث أظهر روحًا فنية شابة ومتجددة. وفي 2011، قدم دويتو غنائيًا مع نجله محمد عدوية في ألبوم "المولد".

تكريم الأجيال وتقدير الكبار

نال أحمد عدوية احترام وتقدير كبار الفنانين، منهم محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بل وحتى عبد الحليم حافظ، كما أصبح الأب الروحي لجيل كامل من المطربين الشعبيين، الذين ساروا على دربه، أبرزهم حكيم، واقتدى به الكثيرون من جيل الشباب.

لحق برفيقة حياته

بعد حوالي سبعة أشهر من رحيل زوجته ورفيقة دربه ونيسة أحمد عاطف، غيّب الموت الفنان الشعبي أحمد عدوية، ليسدل الستار على حياة أحد أبرز رموز الغناء الشعبي في مصر.

اشتهر أحمد عدوية وزوجته الراحلة ونيسة أحمد بعلاقة مميزة جمعت بين الحب والاحترام، ما جعلها من أبرز محطات حياته الشخصية. وخلال مسيرته الفنية الطويلة، لم تكن ونيسة مجرد زوجة، بل كانت سندًا وداعمًا له في مختلف مراحل حياته.

علاقة الثنائي كانت دائمًا حاضرة في أحاديث عدوية الإعلامية، حيث عبّر مرارًا عن مكانة ونيسة في حياته، وهو ما ظهر جليًا في اللقاءات التلفزيونية والصحفية التي كشفت عن عمق الارتباط بينهما.

يأتي رحيل أحمد عدوية بعد فترة قصيرة من وفاة ونيسة، ليترك أثرًا عميقًا في قلوب محبيه وعائلته، ويذكّر الجميع بقصة حب تجاوزت أضواء الشهرة، وأصبحت نموذجًا للعطاء والمساندة في مواجهة تحديات الحياة.

لم يكن أحمد عدوية مجرد مطرب شعبي، بل كان رمزًا لحقبة زمنية وثقافية كاملة، استطاع أن يوثقها بأغانيه. برحيله، يخسر الفن الشعبي أحد عمالقته، لكنه يترك وراءه إرثًا سيظل شاهدًا على عبقرية صوت استطاع أن يصل إلى أعماق القلوب.

 

التعليقات