حكاية "كاتدرائية نوتردام".. من الحريق المدمر لإعادة الافتتاح "ملحمة التمويل ومزج الحداثة بالتراث"
أجرى الرئيس الفرنسي إيمانويل زيارة تفقدية أخيرة لكاتدرائية نوتردام في باريس، التي تستعد لإعادة فتح أبوابها للعالم بعد حادث الحريق المأساوي في عام 2019.
وكشفت صحيفة "لا كروا" الفرنسية عن تفاصيل رحلة إعادة البناء الاستثنائية التي استمرت لأكثر من أربع سنوات، محولة الكارثة التي هزت العالم إلى ملحمة فرنسية في العزم والإصرار والإبداع المعماري.
وتجلت صورة التحديات الهائلة التي واجهت فريق الترميم منذ اللحظات الأولى للمشروع، إذ تطلب العمل جهودًا استثنائية على مدار الساعة، وتضافر خبرات مئات المتخصصين من مختلف المجالات.
وأوضح المهندس دافي كومبا ماتوندو، المشرف الرئيسي على المشروع، أن الفريق واجه تحديات غير مسبوقة في تاريخ الترميم المعماري، بدءًا من تأمين المبنى المتضرر وحتى أدق تفاصيل إعادة البناء.
تطلبت المراحل الأولى عمليات دقيقة لإزالة الأنقاض وتقييم الأضرار، إذ عمل الفريق في ظروف خطرة تحت سقف مؤقت لحماية المبنى من العوامل الجوية، وقام الفريق القائم على الترميم بتوثيق كل حجر وكل قطعة أثرية باستخدام تقنيات رقمية متطورة، مما سمح بإعادة استخدام أكبر قدر ممكن من المواد الأصلية في عملية الترميم.
شكلت حملة جمع التبرعات لإعادة إعمار الكاتدرائية ظاهرة استثنائية في تاريخ ترميم المعالم التاريخية، وفي هذا الصدد كشفت "لا كروا" عن تجاوز التبرعات 844 مليون يورو، في مشهد يعكس المكانة الفريدة التي تحتلها نوتردام في الوجدان العالمي.
وتنوعت مصادر التبرعات بشكل لافت، من تبرعات الأفراد البسيطة إلى المساهمات السخية من كبرى المؤسسات العالمية والشركات الفرنسية.
وسمح هذا التمويل الضخم باستخدام أحدث التقنيات وأفضل المواد المتاحة، مع الحفاظ على الأصالة التاريخية للمبنى.
كشفت "لا كروا" عن استخدام مجموعة متطورة من التقنيات في عملية الترميم، إذ تم توظيف أنظمة ليزر متقدمة لتنظيف الأحجار التاريخية دون المساس بقيمتها الأثرية، كما استخدمت نماذج ثلاثية الأبعاد عالية الدقة لتوثيق كل تفصيلة في المبنى وضمان دقة الترميم.
وفي خطوة تجمع بين احترام التاريخ ومتطلبات السلامة الحديثة، تم تركيب شبكة متطورة من أنظمة الحماية ضد الحرائق، مخفية بعناية في جدران المبنى وسقفه.
كما تم تحديث نظام التهوية والإضاءة بشكل يحافظ على الطابع التاريخي للكاتدرائية مع تحسين تجربة الزوار.
تجاوز مشروع ترميم نوتردام أبعاده المعمارية ليصبح رمزًا لإحياء التراث الثقافي والروحي الفرنسي، إذ أكدت "لا كروا" أن المشروع شمل إنشاء مساحات جديدة مخصصة لعرض تاريخ الكاتدرائية وأهميتها الحضارية، مع تخصيص أماكن للتأمل والصلاة تحترم قدسية المكان.
كما تم تطوير برامج تعليمية وثقافية ستقدم للزوار بعد الافتتاح، تشرح أهمية نوتردام في التاريخ الفرنسي والأوروبي، وتوثق قصة ترميمها كنموذج للتعاون الدولي في حماية التراث العالمي.
كشفت الصحيفة الفرنسية عن التحضيرات المكثفة للافتتاح المرتقب في 7 ديسمبر القادم، إذ تم إعداد برنامج احتفالي ضخم يمتد لعدة أيام، يشمل عروضًا موسيقية وفنية تحتفي بتاريخ الكاتدرائية وقيمتها الثقافية.
كما سيتضمن البرنامج جولات خاصة تكشف عن تفاصيل عملية الترميم وتبرز الجهود الاستثنائية التي بذلت لإعادة الحياة لهذا الصرح التاريخي.
توقع الخبراء، وفق ما نقلته "لا كروا"، أن يحدث افتتاح نوتردام نقلة نوعية في السياحة الباريسية، إذ إن الكاتدرائية، التي كانت تستقبل سنويًا نحو 12 مليون زائر قبل الحريق، جرى تطوير محيطها بالكامل لاستيعاب الأعداد المتزايدة المتوقعة من الزوار.
وشمل ذلك تحسين شبكات النقل المحيطة، وتطوير مناطق الانتظار، وإنشاء مراكز استقبال حديثة تضمن تجربة زيارة سلسة ومميزة.
وأشارت "لا كروا" إلى أن نجاح مشروع ترميم نوتردام يشكل نموذجًا عالميًا في الحفاظ على التراث المعماري وإدارة المشاريع الكبرى، إذ نجحت فرنسا في تحويل الكارثة إلى فرصة للإبداع والتجديد، مع الحفاظ على روح وأصالة واحدة من أهم معالمها التاريخية، لتعود نوتردام منارة ثقافية وروحية تشع نورها على العالم من جديد.