عن الأرقام والذى منه
للمركز المصرى لبحوث الرأى العام «بصيرة» تقليد حميد هو أنه ينشر يوميا تقريبا «رقم فى حياتنا» هو فى العادة ليس مثل أى رقم وإنما له دلالة لافتة للنظر الذى نعلم تماما أن للجمال وللقبح فيه قيما مختلفة. فى ١٩ فبراير المنصرم نشرت بصيرة خبرا: حقق قطاع الاتصالات معدلات نمو بلغت نسبة ١١.٢٪ خلال الربع الأول من العام المالى ٢٠١٦/ ٢٠١٧ مما يعد الأعلى نموا بين قطاعات الدولة. بالطبع فإن الأخبار الخاصة بالنمو فى أى من قطاعات الدولة يعد خبرا سعيدا، أو هكذا أظن، خاصة أن أحدا لم يعترض بذلك الاعتراض الدائم على كل نمو أن «الغلابة» فى مصر لم يصبهم من هذا النمو نصيب لأننا نعلم، والحمد لله، أن فى مصر عددا من التليفونات الجوالة تزيد على عدد السكان (آخر الأرقام التى عرفتها أن هناك ١٠٥ ملايين خط موبايل فى مصر). بالطبع فإن هناك عددا لا بأس به من الأغنياء الذين لديهم أكثر من خط، ولكن معظم الغلابة لديهم واحد على الأقل. والشاهد على ذلك أنه رغم الشكوى الكبيرة بين المصريين، من الغلابة وغير الغلابة أحيانا، من أسعار الأرز والسكر والكهرباء والوقود وغيرها من السلع، فإنه لم يحدث- فيما أعلم- شكوى بين المصريين من أسعار الاتصالات رغم ارتفاعها، وتضخمها، وتزايد أعطالها وانقطاع خطوطها. لم تكن الاتصالات من السلع أو الخدمات التى حصلت على النقمة القومية التى حظيت بها سلع أخرى، ربما لأن «الرغى» فى التليفونات بات رياضة قومية، أو أنه مصدر للسعادة بسبب تبادل النكات بين الغلابة، وجروبات المناقشات المستفيضة بين المثقفين عبر «الواتس آب».
رقم آخر لافت للنظر جاء فى عدد بصيرة «رقم فى حياتنا» يوم ٦ مارس الجارى على الوجه التالى: استوردت مصر «آيس كريم» ومثلجات أخرى بحوالى ٤١ مليون جنيه، وذلك فى الفترة من يناير حتى أكتوبر ٢٠١٦، وهو ما يعادل تكلفة بناء ١٦٤ فصلا جديدا. انتهى الخبر. لاحظ هنا الحال أن الرقم ليس مذكورا فى حد ذاته كما هى العادة، وإنما الحكمة فيه تأتى مع المقارنة التى هى فى جوهرها نوع من الغمز واللمز الرقمى فى توزيع أولوياتنا ما بين مذاق الآيس كريم والتعليم الذى على الأرجح عندما نتحدث فيه بلغة «الفصول» فإننا نتحدث عن تعليم الفقراء فى مناطق لم تذهب لها المدارس بعد. الحكمة العامة هنا غير موجودة، فالمجتمع فضل استيراد سلعة «ترفيهية» على سلعة أخرى «بنائية» بدونها لا ينصلح حال أو هكذا يبدو التلميح الصريح. ومن الغريب أن الأستاذ سليمان جودة، وهو المدافع الغيور عن أهمية التعليم فى مصر، لم يعلق على هذا الرقم المهم، والمقارنة التى لا تقل أهمية بين الآيس كريم والفصول. ولكن أياً ما كانت الحكمة من الموضوع فإن القضية التى تثيرها هى قضية توزيع الإنفاق فى مصر، وهل يتم ذلك وفق خطة محكمة تقرر الأولويات الوطنية (التعليم قبل الآيس كريم بالطبع)، أو أن الموضوع كله مثل كل الموضوعات الأخرى يتوقف على العرض والطلب، وهنا يكون «الآيس كريم» متقدما على بناء الفصول لأن من يريدون الأول لا يطلبونه فقط وإنما أيضا على استعداد لدفع ثمنه، أما الثانى فإن الطلب عليه احتمال، والثمن فيه على عهدة الحكومة التى لا يوجد لديها ما يكفى لبناء كل الفصول. المنافسة هنا تأتى بين «طلب فعال»- أى طلب مصحوب بالقدرة على الدفع- و«طلب محتمل» أى طلب غير مصحوب بالضرورة بالقدرة على الدفع.
الأرقام هكذا تثير قضايا عدة، وهى تؤخذ أحيانا على سبيل اليقين، فيقال هذه أرقام وليست لغوا فى الحديث أو تركيبات الألفاظ، ولكنها فى أحيان أخرى تؤخذ سبيلا للتضليل، وكان تشرشل هو الذى قال ساخرا إن الإحصائيات بالغة الأهمية، خاصة تلك التى أزيفها شخصيا. وكثيرا ما جرى ترديد تلك النكتة عن الاتحاد السوفيتى قبل انهياره حينما قيل إن سباقا جرى بين العربة الكاديلاك الأمريكية والعربة زيل الروسية، فجاء فى الصحف نتيجة المسابقة أن العربة زيل فازت بالمركز الثانى، بينما حصلت العربة كاديلاك على المركز قبل الأخير. صياغة الأرقام بالغة الأهمية، ولكن التعليق عليها أيضا لا يقل أهمية، وما علينا أن نتابع النقاش، أو المشاجرة لا فرق، بين المدافعين عن النظام السابق، وهؤلاء الذين لا يحبون النظام الحالى ولكنهم يكرهون النظام السابق، فحينما يذكر الأولون معدل النمو فى الناتج المحلى الإجمالى ويقولون إنه كان ٧٪، فإن الأخيرين يقولون فورا ولكن «الغلابة» لم يصلهم شىء من هذا، وكأن معدل النمو لا يعبر عن السلع والخدمات فى المجتمع وإنما عن توزيعها بين أفراد المجتمع حتى الغلابة الذين يعملون فى القطاعات النامية فى السياحة والتشييد والصناعة.
ومع ذلك فإن أحدا لا يستطيع الاستغناء عن الأرقام، وهى الترجمة الكمية للوقائع والحقائق. وخلال الشهور القليلة الماضية تعلم المصريون البحث عن رقم سعر الدولار الذى هو فى الحقيقة سعر الجنيه بصورة يومية، ويكون الرقم هو السبيل للتفاؤل أو التشاؤم رغم أنه وسيلة قياس تفاعلات وتبادلات اقتصادية. ولحسن الحظ أن الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء يقوم الآن ربما بأكثر إحصاءاته شمولا واتساعا وتغطية للتغيرات الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية المصرية فى التاريخ. فربما لم يحدث من قبل أن تم توظيف أكثر من ٢٥ ألف باحث للعمل فى هذا الإحصاء، ويجرى ذلك من خلال «تابليت» يعطى الباحث خريطة المعلومات التى يبحث عنها، وبينما يسجلها تصل فورا إلى محطة الجهاز التى تجرى فيها العمليات الحسابية والتى تسمح بعدد لا نهائى من فحص للعلاقات الارتباطية بين الظواهر المختلفة فتصير المعرفة عن المحروسة كما لم يحدث من قبل. بشكل ما فسوف تكون لدينا صورة صادقة تماما لمصر، تعطى تفصيلاتها كما يقال فى نفس اللحظة الزمنية التى جرت فيها وباختصار On Time. الباحثون والباحثات سوف يجدون فى ذلك كنزا لا ينضب للتحليل والبحث، وفهم ظواهر مختلفة غمضت علينا من قبل سواء على المستوى الشامل الذى يغطى الدولة كلها أو، وهو ما لا يقل أهمية على الإطلاق، المعرفة الجزئية لمحافظات ومراكز وقرى ونجوع وريف وحضر وبداوة. وبالنسبة لصانع القرار فإن ذلك من ناحية يعطى معرفة أفضل بالحال، كما أنه بالتبعية سوف يكون أكثر قدرة على اتخاذ القرار. وفى المرحلة القادمة لدينا قرارات مهمة، تخص المحليات، كما تخص إدارة الثروة على مستوى الجمهورية كلها، وفى نفس الوقت توزيع الاستثمارات والميزانية العامة وهكذا. ولمن يقوم بواجباته فى مجلس النواب فإن الحصيلة سوف تكون ثروة فى حد ذاتها، حيث المعلومات عن كل دائرة انتخابية سوف تكون متوافرة بأكثر من أى وقت مضى. أما باقى المؤسسات المصرية فإنها هى الأخرى سوف تكون أكثر رشدا وعلما فى اتخاذ القرار. صحيح أن قراءة الأرقام كثيرا ما يشوبها كثير من الأيديولوجيا، ولكن ما يحتاجه القارئ هو المصداقية، وتلك قد اكتسبها الجهاز منذ وقت طويل عندما بات ملتزما بالمعايير والتعريفات الدولية فى جمع المعلومات. تحية للواء أبوبكر الجندى ورفاقه من العاملين فى الجهاز، ولباحث قديم منذ أربعين عاما فإن نتائج التعداد الإحصائى لعام ٢٠١٧ سوف تكون كنزا كبيرا.