تبرعوا ٣٠ يوماً.. فقط !!
ظاهرة ننفرد بها بين دول العالم ، تخصيص شهر في السنة للتبرعات والعمل التطوعي ، وبعد ان ينتهي الشهر بحملاته واعلاناته وتجف دموع المشاهدين على المرضى وبعد ان تتقطع قلوبهم على الفقراء المحتاجين للستر والمأوى والمياه النظيفة والطعام .. الخ ، يعود كل شئ الى سابق عهده ، لا نرى طوال العام اي تعاطف او تكافل اجتماعي أومشاركة وتختفي الحملات والاعلانات ويعود ممثلوها ومطربوها الى بيوتهم ، وتبدو مصر وكأنها قد خلت من المنظمات الاهلية والجمعيات الخيرية . وتتوقف معظم مظاهر العمل الاهلي والتطوعي .. لماذا ؟.. لان الدور الاجتماعي في مصر ارتبط فقط بالمناسبات الدينية وبالتحديد شهر رمضان الذي يحصد وحده ملايين التبرعات التي لانعرف اين تذهب ولا كيف تنفق ثم يعود الفقراء الى سابق احوالهم لا تحسنت معيشتهم ولا قلت اعدادهم !.
المشكلة ان العمل الخيري لايحدث نتيجة احساس بالمسئولية الاجتماعية ولكن يحدث بإعتباره واجباً دينيا . وكل الاديان تدعو الاغنياء للتبرع للفقراء ولكن هذا وحده لايكفي للقضاء على الفقر ولا لنشر ثقافة التبرع والعمل التطوعي بين الشعب ،ولا يكفي ان توزع كراتين الطعام وتنطلق حملات دعم المستشفيات لمدة ٣٠ يوما ، الفقراء والمرضى موجودين طوال العام ، وليسوا فقط هؤلاء الذين ينتشرون في الشوارع وامام موائد الرحمن قبل المغرب انتظاراً لوجبة طعام . وطبيعي ان تكون المناسبات الدينية اسلامية او مسيحية فرصة اكبر للعطاء بسخاء ، ولكن من حق المتبرعين ان :
١- يغضبوا من كثرة الالحاح الاعلاني والابتزاز الانساني والضغط العصبي لتحريض الناس على التبرع .
٢- ومن حق الناس ان تشكو من كثرة الجهات التي تحتاج للتبرعات والتي تظهر البلد وكأنها بلا حكومة ترعى مصالح الناس وتوفر لهم احتياجاتهم الاساسية .. هل يعقل ان تحمل الدولة الناس مسئولية توصيل المياة والصرف الصحي للقرى ؟!
٣- ومن حق الناس ان تسأل وزارة التضامن المسئولة عن آلاف الجمعيات الخيرية كيف تنفق التبرعات ؟ وهل يدفع الناس من جيوبهم الملايين التي تصرف على حملات الاعلانات الضخمة الفخمة ؟!..
وعل سبيل المثال اذا تبرعت ب ٥ الاف جنيه لمستشفى فكم من هذا المبلغ يذهب مباشرة للمستشفى وكم منها يذهب للاعلانات والمصورين والفنيين والموظفين ؟! ، وسوف يكون من حقي لو عرفت ان نصف هذا المبلغ او ربعه سيقتطع لاغراض ادارية او اعلانية ان ارفض التبرع واحتج على الوزارة التي توافق على هذا الاهدار السفيه لاموال تبرعات المصريين التي يقتطعونها من قوت اولادهم لمساعدة الفقراء لا لمساعدة موظفي الجمعيات وشركات الاعلان !.
ان ثقافة التبرع في بلادنا مشوهة ومعظمها يتم للفشخرة والمباهاة لا للاصلاح الاجتماعي الحقيقي ، فالفقراء والمرضى يحتاجون للدعم وتحسين احوالهم طوال العام وليس لشهر واحد فقط ،والفقراء يحتاجون للطعام والملابس طوال العام وليس لشهر رمضان فقط ، وفي معظم بلاد العالم العمل التطوعي ومساعدة الفقراء الذين بلا مأوى او عمل يحدث بصورة منظمة طوال العام بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني والادارة المحلية للاحياء والمدن ، عمل تطوعي يقوم به شباب المدارس والجامعات انطلاقا من الاحساس بمسئوليتهم الوطنية والاجتماعية قبل كل شئ ، وفي اوروبا ، تجد الجمعيات الخيرية والمراكز الدينية والكنائس تفتح ابوابها في مواعيد محددة للمحتاجين ، تقدم خدماتها في صمت وبدون ضجيج او اعلانات ، وهناك تجربة " مطبخ الشوربة " في ايام البرد القارص يتولى تجهيزها وتوزيعها شباب المتطوعين ، وهناك في كل حي قوائم معروفة لكل من يحتاج المساعدة سواء من هو بلا مأوى او غير قادر على العمل او كبار السن .
ان ثقافة التبرع والتطوع جزء اصيل في نسيج مجتمعات التكافل ، وتتولاها بصورة اساسية منظمات المجتمع المدني التي ترعاها وتدعمها الدولة وتوفر لها كل الحرية والتسهيلات للعمل ايمانا منها بأن المجتمعات لا تديرها فقط السلطة المركزية والحكومات ولكن بدعم ومساندة المجتمع المدني .
ان المجتمعات المشوهة غير الناضجة فكريا وثقافيا هي التي تستبدل الدين بالمسئولية الاجتماعية ، وهي التي تحتاج الى اعلان يغني فيه الممثلين والمطربين لكي تتقرب الى الله بعمل صالح . ان ثقافة العمل التطوعي تموت في بلادنا بفعل فاعل عندما اعتبرت الدولة منظمات المجتمع المدني عملاء وخونة وممولين هدفهم اثارة الفتن في البلاد ، وكانت الاتهامات الجاهزة والمعلبة وراء اصدار قانون الجمعيات الذي فرض قيودا على الدعم والتمويل وحرية الحركة لجمعيات المجتمع المدني فساهم في خنقها وتقليص دورها لصالح الجمعيات الدينية او المتسترة بالدين ، ليرتبط في النهاية كل تبرع او تطوع او عمل خيري بالدين سواء كان اسلاميا او مسيحيا ، وللاسف فان هذه الظاهرة هي ما تعطي الصبغة الدينية لكل نشاط في البلد وهي ماتفسح المجال دائما لكل المتربصين الذين حاولوا تحويل مصر يوماً ما الى دولة دينية . فهل ننتبه حتي لا نكرر نفس الاخطاء ؟!!!