حرية حلا غير الشخصية
دخلتنا الفنانة المعتزلة العائدة حلا شيحة في خانة اليك. ورب خانة يك ندخلها رغمًا عنا خير من ألف ورقة بحثية تطرح للحوار ونقاشات شعبية تتحول لمناطحات.
وتبدو مسألة (حجاب- نقاب- إماطة- كل ما سبق عن شيحة) حرية شخصية للوهلة الأولى، لكنها ليست كذلك. فموجة تحول نساء مصر إلى الحجاب التي بدأت في ثمانينيات القرن الماضي، ثم تطور الموجة إلى هوجة للنقاب، تجعل من مسيرة حلا شيحة سببًا للبحث الهادئ والتفكير دون تشنج أو هسهس.
هسهس كتاب الدين الكامن في الحقيبة التي ألقاها الصغير على الأرض فإذا به يتعرض لسيل من التهديد والوعيد على الذنب المقترف والخطأ المرتكب يجب أن يتنحى جانبًا حتى ننتهي من نقاش هادئ.
ويكفي أن تتابع نوعية القضايا التي يتحدث عنها الشارع في بريطانيا، أو المجتمع في فرنسا، أو الناس في ألمانيا وهمومهم اليومية وما ينهكنا ويستهلك طاقاتنا ويستغرق أوقاتنا في المحروسة. فبين غضب عارم يجتاج بريطانيا بعدما تم اكتشاف قيام مقدمي الخدمات الصحية للمتقاعدين باستثمار أموال التأمين الصحي في شركات تبغ وهو ما يناقض توجهاتهم الصحية، وترقب دامغ في فرنسا تحسبًا لنقل آلاف الوظائف من بريطانيا إليها قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وتحسب واضح للاتفاق المبرم بين ألمانيا وإسبانيا في شأن اللاجئين، ناهيك من اقتراب "ناسا" من الشمس، وأوهام الحساسية من البنسلين، ودراسة أمريكية، تثبت أن العالم النامي متخم بكم هائل من الأدوية المغشوشة والرديئة، نصول، ونجول حول إذا ما كانت النساء أعلى شأنًا بنقاب لا يظهر سوى العينين، أم حجاب يغطي الشعر، أم يفضل عدم خروجهن من الأصل!
والأصل في مسألة حلا شيحة وحجابها ونقابها واعتزالها لا يقف عند حدود اختياراتها الشخصية، لكنها ترمز وتلخص وتختزل ما جرى في مصر على مدار سنوات، وما آلت إليه أحوال المصريين، وما انتهت إليه "الغزوة الثقافية" و"الهجمة الاجتماعية" التي صورها البعض باعتبارها "صحوة دينية" لا ريب فيها.
الارتياب في كونها "صحوة" أو "هجمة" حق. والنقاش حول إذا ما كان الذي حدث في مصر من تحولات ثقافية واجتماعية وفكرية على مدار نحو ثلاثة عقود "عودة إلى الجذور" أم حلحلة منها وانصرافًا عنها- واجب.
والتغلب على فزاعة "لا تجادل يا أخ علي" التي يمعن أصحاب المصلحة في التلويح بها، كلما حاول أحدهم إعمال العقل أو الاحتكام للنقاش المنطقي أو اللجوء للتفنيد الواقعي حان وقته، وقت هوجة حجاب الفنانات واعتزالهن الفن وحشر البعض منهن أنفسهن في مجال الوعظ الديني والإرشاد الشرعي تم تنصيبهن في مكانة أعلى من قريناتهن غير المعتزلات.
وتم التلويح بمنح الدنيا ومميزات الآخرة ليكن قدوة لباقي بنات ونساء مصر ليتخذن منهن مثالاً يحتذى.
وحفلت المساجد ونضحت الزوايا وامتلأت قاعات النوادي بمشايخ ودعاة (أدعياء) جدد اتخذوا من غطاء رأس نساء مصر وبناتها غاية عظمى وهدفًا أسمى.
وقد تكللت هذه الجهود بنجاح كبير كما هو واضح للجميع. وأصبح الزي المروج له صاحب اليد العليا في الشارع. وكل من لا ترتديه يتم تصنيفها لا إرادياً باعتبارها درجات أقل في التدين، ومن ثم في مكانة أدنى من قريناتها، أو من أتباع ديانة أخرى.
وخرجت إلى النور أجيال تعتقد أن التطور الطبيعي لأي أنثى هو ذلك الزي. وتم تفريغ الزي تمامًا وإخلاؤه من أي مكونات أخرى تمامًا كالفراخ البانيه.
وبنظرة سريعة إلى الشارع المصري يتبدى تمامًا أن جهود سنوات مضت الدينية انصبت في المظهر فقط لا غير. ولو دق أولئك على أوتار العلم أو النظافة أو احترام حقوق الغير أو تعريف معنى الأخلاق وقيمة السلوكيات ومكانتها في الدين لاحتفظ المجتمع المصري بقدر من توازنه. لكنه مال كليًا تجاه الطقوس وتخلى تمامًا عن أي محتوى.
محتوى السجال الدائر حول حلا شيحة وثيق الصلة بدعوة تجديد الخطاب الديني المغدورة، وجزء لا يتجزأ من هوية مصر المسلوبة، وفرصة ذهبية لمناقشة ما أصابنا بعيدًا عن متلازمة النقاب والبيكيني الغارقة في هطل فكري وترويع شعبي واستمرار تلاعب إخواني وسلفي بمقدرات مصرية.
حرية حلا شيحة الشخصية وغيرها تنتهي عند تحول المجتمع فكريًا وثقافيًا.
(مصراوي)