السماحة بالصراخ
أخذ خطيب الجمعة يصرخ ثم يصرخ. وبعد ما انتهى من الصراخ تحت وطأة البحة الشديدة التي ضربت أحباله الصوتية، ويبدو أنه أغلق بضعة الميكرفونات والتي تضمن وصول الصراخ إلى كل فج عميق ليرتشف بعضًا من الماء يمكنه من معاودة الصراخ، دعوت الله أن يهدأ قليلًا لكي أفهم ما يقول وأتوصل إلى الموضوع الذي دفعه إلى هذا القدر من العصبية التي أفقدته صوته.
والحمد لله أن رشفة الماء ضخت فيه الصوت مجددًا وانطلق أقوى مما كان. وعرفت من الكلمات الأولى التي نطق بها قبل أن تعاود المسألة احتدامها، ويستأنف الخطيب صراخه أنه يتحدث عن السماحة وأهميتها في تقديم صورة جيدة عن الدين سواء أمام المسلمين أو غير المسلمين.
هذا ما تيسر قبل وصلة صراخ أخرى انخرط فيها الشيخ متعمقًا في حديث السماحة وتقديم صورة جيدة عن الدين لغير المسلمين. ورغمًا عني تخيلت إنني مكان جارنا غير المسلم في الشقة المتاخمة لنا والمواجه لجانب من ميكرفونات المسجد المسلطة يمينًا ويسارًا. دعوت الله ألا يكون قد بذل الجهد نفسه الذي بذلته لأتحقق من موضوع الخطبة. فالأهون هو أن يجد نفسه متعايشًا مع الصوت المجلجل دون التركيز في محتواه، وإلا فإنه سيجد نفسه مضطرًا للتفكير في هذه الهوة العميقة والفجوة السحيقة بين كلمة "سماحة" وبين أداء الخطيب المنفر والمستفز والمندرج تحت بند الترهيب والتخويف.
مدرسة تخويف الناس وترهيبهم والعمل على بث مشاعر الرعب والهلع والجزع بينها مدرسة قديمة قدم الإنسانية. فهناك من يعمل على غرس القيم وبث المبادئ في النفوس عبر خرزانة فكرية و"فلكة" نفسية وعصاية ذهنية. إن لم تنجز الواجب، يتم "مدك" على قدميك بالفلكة. إن كذبت، يتم لسع لسانك بملعقة ملهلبة. إن لعبت في الشارع، يتم ضربك بحزام أبيك عشر ضربات، وهلم جرا.
وغالبًا تكون النتيجة مُرضية جدًا حيث خضوع وإذعان، وتسليم وانصياع. لكن بعد سنوات، تطول أو تقصر، تكون النتيجة مَرَضية. فمن ضُرِب بالأمس وخضع للترهيب والتخويف، إما يصبح بدوره كائنًا مريضًا خائفًا يمتنع عن الخطأ لخوف، وينأى بنفسه عن الخطر لرعب، ويورث مرضه التربوي هذا لصغاره من بعده، أو أنه يثور على الخوف ويتمرد على الترهيب وقد ينجو بنفسه ويحرر عقله ويعقلها، أو قد يغرق هو ومن حوله ويقبل على كل ما منع منه بدافع الخوف بشكل مفرط.
أفرطنا كثيرًا وطويلاً في اعتماد مدرسة التخويف والترهيب طريقًا للصلاح والنقاء. وقصرنا في حق أنفسنا وأبنائنا وأحفادنا، بل وفي حق العقائد التي ننتمي لها حين أصبح التخويف والترهيب هما الوجه الآخر للدين والتدين. وليس عجيبًا أو غريبًا إذًا أن نرى في الشوارع هؤلاء الذين يرتدون زي التدين الشديد يحملون وجوهًا عابسة مقطبة متجهمة باعتبارها نعوتًا عاكسة لكن الإيمان ومقدار التدين.
التدين الذي صار مرتبطًا ارتباطًا شرطيًا بالصراخ في المساجد، والصوت الأجش المهدد والمتوعد، ناهيك عن محتوى منتقى عن عذاب القبر، وفتنة الدنيا، والخراب اللاحق بكل من لا يتمسك بتلابيب مقاييس الأيزو في التدين هو تدين قبيح. وهو تدين أوقع ملايين في شراكه بدرجات متفاوتة.
والعجب كل العجب من هذا التعايش السلمي مع هذا القدر من الصراخ الصادر عن المكبرفونات دون إبداء الانزعاج، وهذا الكم من الترهيب والتخويف وكأنهما الطريق الوحيد للتقرب من الله. هل من الطبيعي أن تكون علاقتنا بالله الرحمن الرحيم النور السلام الوهاب الرزاق اللطيف الحليم الغفور الغفار الكريم الهادي البديع ذي الجلال والإكرام قائمة على خوف ورعب ورهب بهذا الشكل؟! استفيقوا يرحمكم الله ويرحمنا!