هري "وسط البلد"
تابعت بمزيد من الاهتمام والامتنان- سرعان ما تحول إلى كثير من الصدمة وعجب العجاب- نشوء وتطور ثم سقوط وتدهور هاشتاج "وسط البلد".
فمن مشاعر وآراء وموقف وذكريات وصور ذهنية عما تعنيه هاتان الكلمتان لملايين البشر، إلى تراشقات وتناحرات، ومزايدات وادعاءات وافتراءات وتناطحات ما أنزل الله بها من سلطان.
سلاطين الفكر الشعبوي والفراغ الافتراضي والخواء الأخلاقي الذي باتوا يملأون الأجواء من حولنا في السنوات القليلة الماضية؛ شمروا سواعدهم، وكشروا عن أنيابهم، وانهمكوا في تقطيع بعضهم على مواقع التواصل الاجتماعي، وكأنهم يحررون القدس، أو يعيدون اختراع الذرة، أو يقومون بعمل له معنى.
والمعنى القابع في بطن الهاشتاج الذي أصبح "ترند" له شنة ورنة، ومتابعون وراصدون حتى من خارج دوائر المهتمين بتدوين مواقفهم ومشاعرهم وذكرياتهم فيما يختص بـ"وسط البلد"-هو أننا بتنا متربصين ببعضنا وعلى أتم الاستعداد، أو كما يقولون واقفين لبعضنا على السقطة واللقطة".
ولحسن الحظ أن لقطات "وسط البلد" لا أول لها ولا آخر، وذكرياتها ومعانيها وقيمتها ومكانتها موجودة بشكل أو بآخر في داخل كل بيت مصري، سواء كان ثوريًا أو إخوانيًا أو يساريًا أو سلفيًا أو يمينيًا أو كنبويًا (من حزب الكنبة).
في كل بيت مصري شيء ما يدور حول وسط البلد، سواء كان مشاعر أو ذكريات أو أمنيات سلبية أو إيجابية. وليس هناك أدل من أن عبارة "وسط البلد" معروفة لدى ملايين المصريين وغيرهم من العرب والأجانب العالمين بالمجتمع المصري بأنها تمثل منطقة وسط القاهرة.
وسط القاهرة حلوها بمرها تألقت في الترند. وشعرت أن جانبًا من حقها المهدور ومكانتها المسلوبة وقيمتها المطموسة قد عادت. لكن الفرحة لم تطل، فسرعان ما قفز على الترند الغارقون في بحور تشويه الآخرين، وإعادة تدوير الفتن والتناحرات، وهواة الدق على أوتار الاستقطاب والتأكيد على جنون الفوقية، الذي ضربنا في مقتل.
كارهون لثورة يناير اتخذوا من "وسط البلد" فرصة لسب وشتم مثقفي وسط البلد وشبابها وشاباتها ممن كانوا يجدون في مقاهيها وأصالتها وبقايا روعتها ملجأ لهم في زمن تدهور التعليم واندثاره وتوقفه عن اكتشاف وتصدير مواهب المثقفين والمثقفات.
كارهو الثورة ومعارضوها- ومنهم من آمن بها ثم انقلب عليها بعدما أزيح الغطاء عن بالوعة الأحداث- أسهبوا في السخرية بل توجيه الاتهامات الحادة لرواد وسط البلد وأروقتها الثقافية.
كما دقوا على أوتار اتهام يساريي وسط البلد ومثقفيها بـ"المتعالين" على خلق الله. آخرون اعتبروا كل ما جرى في مصر من أحداث منذ يناير 2011 سببه "شوية العيال بتوع وسط البلد".
إسلاميون رأوا في وسط البلد مجونًا وفسقًا وفجورًا. رواد وسط البلد أنفسهم منهم من انتهز الفرصة وصب غضبه على "عواجيز الفرح" و"رافضي التغيير" وفارضي الهيمنة على الفكر المصري، وهلم جرا.
وبالطبع، وكما جرت عادة استخدامنا لوسائل التواصل الاجتماعي بديلاً للواقع ومنصة للانتقام ووسيلة لفرض السطوة الفكرية، لم يكتفِ المتراشقون بعرض مشاعرهم وتدوين ذكرياتهم وتحديد ما الذي تعنيه لهم وسط البلد، بقدر ما ركزوا جهودهم وصوبوا سهامهم للنيل من الآخرين المختلفين معهم في التوجه.
هاشتاج وسط البلد المنقلب "ترند" كشف أن شهر رمضان يسفر عن وقت فراغ ضخم يفضح ساعات عمل شحيحة وتركيز واضح في الفضاء الافتراضي، وإلا من أين أتي هؤلاء بهذا القدر الهادر من الهبد والرزع والقدرة على قدح زناد الفكر للنيل من أفكار الآخرين وتوجهاتهم واختياراتهم لأسلوب حياتهم.
أفهم تمامًا أن لـ"وسط البلد" خصوصية واضحة. فبالإضافة إلى أنها حاضرة في ذهن المائة مليون مصري وكل من زار أو اهتم بالقاهرة، وغير أنها تمثل مصر التي كانت بجمالها ورقيها وسلوكياتها المحترمة وما آلت إليه، تظل "وسط البلد" علامة من علامات ما جرى في مصر في شتاء 2011 وما تبعها من أحداث جسام، وأكثرها جسامة هذه التحزبات وتلك التناحرات والمعايرات.