عدوى الزمالك!

كلما مررت فى حى الزمالك فى القاهرة، تذكرت العبارة التى كان الساخر الكبير محمود السعدنى يرددها عن الحى فى أيام مضت.. قال يرحمه الله إن دخول الزمالك كان فى وقت من الأوقات يكاد يحتاج إلى جواز سفر!.. وكانت سخرية عالية ذات معنى!.

ولم يكن الكاتب الراحل يقصد طبعًا أن المصريين العاديين كانوا ممنوعين من دخول الزمالك، ولا كان يقصد أن الأجانب كانوا وحدهم ينفردون بالإقامة فيها، ولا كان يقصد أنها حى مغلق على أهله وأصحابه، ولا شىء من هذا أبدًا، ولكنه كان فقط يريد الإشارة إلى مدى نظافة الزمالك، ومساحة الهدوء الذى يسود فى شوارعها، وكان بالطبع يريد القول أيضًا بأن أحياء القاهرة كلها يجب أن تصيبها عدوى الزمالك.. لا العكس!.

وعندما طلب أبناء هذا الحى البديع إعادة النظر فى مرور مترو الأنفاق من تحتها، وفى شوارعها، لم يكن مطلبهم موقفًا ضد المترو كمشروع، أو رفضًا له كوسيلة مواصلات عصرية، ولا كان نوعًا من التعالى على آحاد الناس، ولكنه كان رغبة فى الحفاظ على الحى بكل ما يمثله من ثروة عقارية وجمالية فى وسط النيل!.

ولا تعرف كيف تم تصوير مطلبهم أمام الرأى العام فى البلد، وكأن أصحابه ناس أثرياء، ومرفهون، وأصحاب ياقات بيضاء، ومنعزلون عن بقية خلق الله، وبعيدون عن هموم الناس الحقيقية!.

جرى تصوير الأمر كله، أو فى جزء كبير منه، على هذا النحو، ولم يكن ذلك صحيحًا أبدًا.. وكان الصحيح أنهم يصعب عليهم أن يروا حيهم الهادئ يتعرض لكل ما يمكن أن يبدد تاريخه، ويعتدى عليه، وينتهك خصوصيته، ثم يكتفون بالفرجة على ما يصيبه!.

وكان الصحيح أيضًا أن على الدولة التى تحاول هذه الأيام استعادة القاهرة الخديوية، لتكون مثل باريس كما كانت، أن تفعل الشىء نفسه مع الزمالك، ومع كل حى كان يشبه الزمالك، من أول جاردن سيتى، ومرورًا بالمعادى والدقى والمهندسين، وانتهاءً بمصر الجديدة!.

هذه أحياء نشأت منظمة، ومخططة، ولم تنشأ عشوائية، وإذا لم نجعلها أجمل وأكثر تنظيمًا وتخطيطًا، فليس أقل من أن نحافظ عليها كما هى، أو كما كانت، ليس لأن المقيمين فيها مميزون عن باقى المواطنين، ولكن لأنها ثروة فى حد ذاتها، بالمعنى العام لكلمة الثروة.. ولا بد أن الحفاظ عليها هو فى الأصل حفاظ على وجه مضىء من وجوه البلد، سوف ينتقل وينتشر كالعدوى مع مرور الوقت إلى باقى أحياء القاهرة!.

إننى أدعو كل مَنْ يغار على الأشياء الجميلة فى بلدنا إلى أن يخطف رجله إلى شارع أبوالفدا، أكبر شوارع الزمالك وأشهرها، ليرى كيف تحول من شارع هادئ يطل على النهر الخالد، إلى طريق عشوائى يتسابق فيه الأطفال بالخيول بين السيارات والمارة فى مشهد فوضوى لا تكاد تصدقه!.

الانتصار للزمالك ليس مجرد وقوف إلى جوار حى من أحياء العاصمة، فى مواجهة القبح الذى يزحف عليه، ولكنه انتصار لكل قيمة جمالية باقية فى حياتنا!.

 

التعليقات