هوامش شعبية للإرهاب
للمرة العاشرة بعد المليون، كل حادث وحدث وتفصيلة كبيرة وصغيرة نمر بها وتمر بنا تقول لنا الكثير عن أنفسنا وعما أصاب أدمغتنا وأثّر فى قلوبنا وشكّل وعينا فى العقود الأربعة الماضية. جريمة العريش الإرهابية الأخيرة، فجر أول أيام عيد الفطر، فتحت أبواب التحليل والتنظير على مصاريعها كما جرت عادتنا على مدار السنوات الثمانى الماضية.
لكن مع كل باب تنظيرى شعبى تنفتح عشرات أبواب التحليل لمن يرغب من الخبراء والمختصين لفهم ما جرى فى مصر على أمل الإصلاح ورجاءً فى الإنقاذ. هناك القلة المريضة قلباً وقالباً المشبعة حتى النخاع، سواء من الإخوان الكارهين لمصر وجيشها وشعبها، وهى القلة المشرذمة المقتدرون منها مقيمون بين قطر وتركيا وبريطانيا وأمريكا وغيرها، وغير المقتدرين موجودون بيننا فى ربوع مصر.
وبالطبع فإن المقيمين فى الخارج، سواء فى دول فى الإقليم أو غربية مصنّفة فى دستورهم بأنها «كافرة»، يطلقون العنان لمشاعرهم المريضة وكراهيتهم البغيضة تجاه مصر كلما وقعت جريمة إرهابية. تكاد تشعر بالفرحة العارمة والنشوة الطاغية مما يكتبونه على صفحاتهم وما يتداولونه من أخبار الكثير منها تلفيق وكذب. تنظر إلى قائمة أصدقائهم، فتجد الكثيرين منهم على شاكلتهم. تدقق فى عيون أبنائهم وبناتهم، وتتابع ما كتبه مراهقوهم وشبابهم، فتباغتك المصيبة الأكبر أنهم صورة طبق الأصل من الأهل.
وفى الداخل، يتوخى أقرانهم الحذر. ورغم ذلك، ينضح «صفار» تدويناتهم بما يعترى قلوبهم من فرحة يفشلون فى إخفائها كلية. يحاولون التمسك بتلابيب الموضوعية وحبال الحيادية، فيحشون كلامهم «طق حنك» عن: «الغلابة الذين يخدمون فى مناطق خطرة» و«الأكابر المحميين فى بيوتهم» و«العساكر الذين لا حول لهم ولا قوة» و«الضباط المرفهين فى الاستراحات». يلتقط الخيط البعض من أبناء الجيل الضحية الذى تجاهل نظام الرئيس الأسبق مبارك احتياجاته وغض الطرف عن متطلباته ليكون مواطناً كامل الأهلية والحقوق والواجبات، فيدق «لايك» وبعدها «شير» ويبدأ «يعك» فى تنظير أخرق عن كم الذخيرة المتاح، نوع التسليح، وماهية التدريب، وطبيعة التمركز، وفحوى التكتيك، ومحتوى التنسيق. آه والله هكذا يكتبون بينما البعض منهم قابع فى المقاهى أو «مأنتخ» فى قريته أو على ساحل البحر أو أمام شاشة التليفزيون أو نتفليكس.
وتتشابك وتتعقد خيوط الشبكة العنكبوتية فتجد تنظيرات وتحليلات استراتيجية وتكتيكية تخفق فى الحصول على شهادة التخرج من كى جى تو، لكنها تدور ويعاد تدويرها، فتبدو لوسائل إعلام عالمية ومنظمات حقوقية دولية وكأنها الواقع ونبض الشارع، وكلاهما منها برىء.
وهناك أبناء عمومة الإخوان من جماعات الإسلام السياسى الأخرى «اللابدة فى الدرة» فى انتظار اللحظة الفارقة للقفز على الحكم أو ما تيسر من أدوار هامشية، ومعهم القنابل الموقوتة العائدة «بقرشين من هنا وفكرتين من هناك» لتنشر ديناً لا علاقة له بالإسلام وفكراً لا يمت بصلة للإنسانية. بعض أولئك محسوب علينا باعتباره «نصيراً للدولة» و«فصيلاً وطنياً».. إلخ. لكن يجب الإشارة إلى أن أولئك هم من حرّموا النشيد الوطنى وعلم مصر فى المدارس، ولقّنوا الصغار كراهية الآخر وضرورة مقاطعته وحتمية معاداته لأنه كافر.
هؤلاء يلتزمون الصمت التام تجاه جرائم الإرهاب وكأنها تحدث على الجانب الآخر من الكوكب، لكن تقوم قومتهم وتنتفض كرامتهم حين يطلق اسم «صلاح ذو الفقار» أو «أمينة رزق» أو «زكى رستم» على شوارع فى مدينة الشروق لأنهم «رقاصين وداعرين»، أو يحولقون ويحسبنون دون تحديد على من يحسبنون.
وبحسابات بسيطة يتضح مما لا يدع مجالاً للشك أننا فى كارثة فكرية وثقافية حقيقية. فبينما الدولة تحارب إرهاباً شرساً، لدينا قطاعان عريضان كل منهما كفيل بتخريب دولة. عندنا أبناء ثقافة دينية مغلوطة من ألفها إلى يائها، يعلّمون أبناءهم وبناتهم ما تعلموه ونشأوا عليه من نسخة تديّن متطرفة غارقة فى ثقافة لا تمت لنا بصلة، ومعهم فئة مصرية طيبة باتت تقدس البعض من «علماء» الدين الذين ساهموا فى فخفخينا المجتمع المتدين مظهرياً فاقد السلوكيات فعلياً، وتضعهم فى مصاف الأنبياء والقديسين وترفض مناقشة فكرهم أو مراجعة أقوالهم.
وهناك قطاع آخر من منظّرى المقاهى والمحللين والمتكتكين القابعين فى بيوتهم أو تحت الشجرة فى قريتهم أو المستمتعين بشمس الساحل أو هواء الجونة يبثون نظريات تعكس كذلك تعليماً مفرغاً من المضمون وانتماءً مهدراً وفراغاً مذهلاً.