سلوكياتنا فى دائرة مفرغة
حلقة السلوكيات فى مصر باتت مفرغة.. ندور حول أنفسنا فى دوائر ونرفض أو نتجاهل أو نتقاعس عن إمكانية كسر الدوامة والخروج منها. وبدون اتهامات سابقة التعليب بالعنصرية والطبقية والفوقية، لأنها ببساطة غير حقيقية، علينا ألا نتوقع من فاقد الشىء ألا يعطيه. المعلم الذى اختار أن يذهب إلى المدرسة مرتدياً «شبشب» وأظافره طويلة وغير نظيفة، هل يمكن أن يصدقه الطلاب حين يحدثهم عن أهمية الاهتمام بالمظهر اللائق وحتمية العناية بالنظافة الشخصية؟
وسائق الباص العام الذى قرر أن يدخن سيجارته فى الباص أثناء القيادة متحججاً بأنه «قرفان» و«طهقان» و«زهقان»، هل يمكن أن يطالب راكباً بإطفاء السيجارة؟ لا أعتقد. السائق نفسه يعرف أن هناك زياً موحداً للسائقين، لكنه لا يلتزم به. لماذا؟ رد أحدهم بقوله: «ما هو مش أى خنقة وخلاص. كفاية الضغط اللى إحنا فيه». متلازمة القرف والضغط والفقر باعتبارها تحصِّن وتحمى وتدعم الخروج على القانون أصبحت سمجة ولزجة، وفقدت قدراً كبيراً من التعاطف. ورغم ذلك، نصر على حبس أنفسنا فى دائرتها، حيث يتلذذ بعضنا بأسطورة «الغُلب الذى يقى صاحبه من المساءلة».
مساءلة أمين الشرطة أو عسكرى المرور (إن وُجد أى منهما فى الشارع) لسائق الميكروباص أو «الثمناية» أو «التروسيكل» أو حتى الملاكى المتسم بالرعونة أو الجنون أو السير العكسى أو الوقوف فى اليوتيرن أو كل ما سبق مساءلة غير واقعية. لماذا؟ لأنهما على الأرجح غير مقتنعين بجدوى اتباع القواعد واحترام القانون. ربما تدرَّبا على قواعده، لكن الغاية من احترام قواعد السير وتطبيق قوانين المرور غير موجودة. وأكاد أجزم بأن كثيرين من أفراد المرور (إن وُجدوا) يعتقدون أن قواعد المرور لا تخرج عن إطار حزام أمان أو وقوف صف أول أو إصلاح الفانوس المكسور. أما ما عدا ذلك من قيادة خطرة، أو تنزيل الركاب فى مطلع الكوبرى أو منزله أو نزع لوحة الأرقام الخلفية فلا تعنى الكثير.
الكثير من صفحات النوادى الرياضية ومجموعات السكان على «فيسبوك» و«واتس آب» يحوى ملحوظات وشكاوى حول سلوك الأطفال والمراهقين. تدنِّى الأخلاق والتفوه بالشتائم والسباب والإتيان بحركات كانوا يسمونها حتى سنوات قريبة مضت «إباحية» أو «خادشة للحياء» صارت سمات لا تُخطئها عين أو تنجو منها أذن. المثير أن مَن يشكون هم أولياء الأمور أنفسهم معتقدين أن أبناءهم وبناتهم بالتأكيد ليسوا ضمن الزمرة المتدنية أخلاقياً، لكن الشواهد تقول إن الصغار دون استثناء ليسوا معرَّضين إلا لدراما تليفزيونية أو سينمائية تعتبر الشتائم كوميديا أو ضرباً من ضروب الواقعية، أو لكبار يشتمون ويسبون فى الشارع وكأنها لغة الحوار المعتمدة شعبياً. والعجيب والمريب أن يأتيك مَن يُصر على رفع راية الفقر والغلب قائلاً بسماجة ولُزوجة: «ما هو أصله فقير وغلبان»، وكأن الفقر يُعفيه من مغبة التدنى السلوكى.
ومن التدنى السلوكى إلى «التدين» المفرط الذى يعتبره قطاع عريض فى مصر «جرين كارد» ينجى من المهالك الدنيوية ويشفع فى جميع الأفعال الملتوية. شيزوفرينيا السلوكيات تتحدث عن نفسها فى دفاع مرير عن احتلال الرصيف أثناء صلاة الجمعة، لكن إجبار الناس على المشى وسط السيارات لا يُحرك شعرة، أو الاعتراض على نعت صوت السايس الذى قرر أن يؤذن بـ«القبيح» أو «المنفر» وكأنه بقراره أن يتحول لمؤذِّن قد اكتسب صفة القدسية، أو السماح لشخص يرتدى النقاب بعدم وضع الحقيبة على جهاز كشف المفرقعات فى مترو الأنفاق، لأن النقاب يعنى بكل تأكيد النقاء والصفاء وعدم حمل الممنوعات، وقائمة الشيزوفرينيا طويلة جداً. سلوكياتنا التى تحولت إلى تفصيلة يومية عادية لا تشغل بال الكثيرين باعتبارها أمراً عادياً هى فى الحقيقة حديث الكثيرين حول العالم، شرقاً وغرباً. أن يصارحك صديق عربى بأنه لم يرَ من قبل «سرقة عينى عينك» كالتى تعرض لها أو «أطفالاً دون ضابط أو رابط» كأولئك الذين يملأون المقاهى والنواصى، مقارناً ما رآه فى مصر فى 2019 بخبرته فيها على مدار سنوات طويلة، فهذا أمر محزن. وأن تغير أسرة بريطانية خطتها لقضاء إجازة فى مصر وتتوجه إلى دولة أخرى فى المنطقة خوفاً على بناتها من التحرش والمضايقات، فهذا أمر رهيب. وأن يقاوم البعض من القائمين على أمر العملية التعليمية أى تجديد أو تطوير، لأن اللى تعرفه أحسن من اللى ما تعرفوش، أو يكون رد القائمين على أمر المرور أنه ليس فى الإمكان أفضل مما نحن عليه الآن، فهذا يعنى أن الدائرة لم تعد مفرغة، بل صارت خانقة قاتلة.
كلمة أخيرة: النظافة والتنظيم وانعدام البلطجة وقلة الأدب فى فعاليات كأس الأمم الأفريقية تعنى أننا قادرون على ضبط السلوكيات وقت الحاجة.