عفريت العلبة
حرروا نساء مصر من ظلمات الفكر وطفيليات الثقافة وشيطنة النوع، وستجدوا ما يسركم. ارفعوا أياديكم عن احتكار التحريم والتحليل وارتقوا على قتامة الثقافات الهجينة والتفسيرات الباطلة، وستفاجأوا بما فاتكم وما أهدرتموه من وقت وجهد ومال من أجل قمعها وسحقها وتنميطها. ثوروا على تلك القيود الوهمية التى تكبلون بها أياديها وأرجلها وعقلها، تلك القيود التى فرضها عليكم بشر مثلكم هيمنوا على الثقافة وسيطروا على الفكر، فكانت النتيجة أن مصر البهية المرية دخلت غيبوبة عميقة، يسمونها هم تديناً والتزاماً، لكنها لا هذا ولا ذاك، وذلك تحديداً هو ما يحدث فى المجتمعات التى تقرر أن تخرج من سياق الحضارة ومسيرة التنمية وسباق التقدم لتغرق فى تراث سحيق تختلط فيه الخرافة بالمعتقد، فيغرق كلاهما، وذلك تحديداً هو ما يصيب المجتمعات التى تقصى نساءها -حتى لو كان ذلك تحت مسمى التكريم- وتُهمش فتياتها ولو تحت راية الحماية والرعاية، وتتعامل مع تاء التأنيث باعتبارها من القدرات الخاصة أو الأولى بالرعاية أو من أصحاب الهمم وكأن التأنيث إعاقة. وفى مناسبة الـ١٦ يوماً المخصصة للتوعية بمسألة العنف ضد المرأة نقول إن المرأة المصرية تحمل عبئاً ثقافياً وفكرياً تنوء بحمله الجبال، ونقول إن العنف الممارس ضد المرأة لا يقف عند حدود شلوت الزوج أو صفعة الأخ أو نهب الميراث من قبل الأعمام أو الأخوال، كما أنه ليس مجرد تصنيفات وتعريفات أممية تضعها الهيئات والمؤسسات، أو برامج ومشروعات تعمل عليها المنظمات الحقوقية والجمعيات الأهلية، ورغم وجود أشكال مختلفة من العنف الممارس ضد المرأة فى مصر والمرتكز على النوع، من زواج الطفلة إلى الختان إلى عمل الصغيرات فى المنازل وضرب الزوجات وجرائم الشرف وغيرها، إلا أن الشكل الأكثر تعقيداً والأعمق تشابكاً هو ذلك العنف الذى تغوص فيه المرأة المصرية منذ أواخر سبعينات القرن الماضى، العنف الذى هب علينا من كل فج عميق مع أواخر السبعينات، مقدماً نفسه للأمة باعتباره السماحة والطهارة والنقاء، كذب ولاوع وقال إنه الدين الحق، وكل ما سواه ضلال ورياء وبعد عن الله، من منا لا يتذكر هجمة شرائط الكاسيت التى كانت تباع على الأرصفة لمشايخ يصرخون وتارة يبكون تأثراً مما يقولون، وأخرى ينعقون مهددين خلق الله بالعذاب والنار؟! ومن منا لا يتذكر كيف أن مصر المبدعة الفنانة منذ فجر التاريخ بدأت تتشح بالسواد وتغوص فى أغوار تحريم كل ما هو حلال؟ ومن منا لا يلاحظ أن موجات التحريم أتت على كل ما هو مبهج وجميل؟ الموسيقى حرام، الفن حرام، الرسم حرام، التماثيل حرام، الغناء حرام إلى آخر القائمة التى لا تنتهى، حولت هذه الهجمة الشرسة البلاد إلى مسخ آدمى، ولم يتواكب هذا التحريم -الذى اعتبر المرأة منذ ولادتها أول المحرمات- بتحريم انعدام الضمير، أو الاعتداء على حقوق الغير، أو الإهمال فى العمل، أو اعتبار النظافة الشخصية من التوافه، البناء على الأرض الزراعية حلال، وتحويل واجهة العمارة السكنية إلى محلات تجارية دون سند قانونى حلال، سرقة التيار الكهربائى من أعمدة الإنارة فى الشارع للاستخدام فى الكشك الذى تعلوه آية قرآنية ضخمة حلال، والقائمة طويلة جداً، لكن أبشع ما فى القائمة هو ما لحق بالمرأة المصرية، ونجح هؤلاء فى خلق ضلالة فكرية اسمها «الشىء وضده فقط»، فإذا انتقدت النقاب لأنه تشدد وتطرف قفز عفريت العلبة: «أتريدون أن تمشى النساء عرايا؟!» وإن رفضت بث الصلوات عبر آلاف المكبرات غصباً يعاود عفريت العلبة قائلاً: «أتفضلون الأغانى الجنسية؟!»، وإن طالبت بتحرير عقل المرأة ونزولها لمجالات العمل المختلفة، يقول عفريت العلبة: «أتريدونها أن تختلط بالرجال الأجانب وتحمل سفاحاً؟!» وإن انتقدت هوجة «فقه المرأة» وتصوير الدين الإسلامى وكأنه قسمان: عام ومرأة، ينهنه عفريت العلبة: «إذن تطالبون بأن تكون نساؤنا وبناتنا عاهرات ساقطات!» تصيبك الدهشة حين ترى الزى المدرسى لفتيات فى عمر الزهور وقد تحول إلى جلابيب، ناهيك عن التنمر بمن لا تغطى شعرها، فيستل عفريت العلبة السيف مؤكداً أن مفاخذة الرضيعة حلال، فما بالك بابنة التاسعة والعاشرة التى تثير الشهوات؟!
صحيح أن الخيبة القوية طالت المجتمع كله، لكن خيبة المرأة المصرية قوية وعفية، وإذا كان المصرى طاله الأمران جراء النسخة المستوردة الهجين من الدين، فإن المرأة طالتها المرارة والكآبة، ناهيك عن ذلك الحمل الثقيل الرذيل القمىء الذى تحمله معها أينما ذهبت لمجرد أنها تحمل جسد امرأة، هذا الجسد يهتكه ويخربه ويفتئت عليه ويسترزق منه على مدار الساعة عتاولة التحليل والتحريم، فأصبحت المرأة تمشى فى الشارع حاملة وزر كونها أنثى. حرروها يرحمكم الله.
(ملحوظة: التحرير ليس عرياً أو عهراً أو زندقة. التحرير التعامل معها باعتبارها واحداً صحيحاً).