أفضال "كورونا"
كم الرؤى الفلسفية والأفكار غير المادية التي نجمت عن "كورونا"، والحظر بأنواعه الجزئي منه والكامل، والاختياري والإجباري مذهل. وبعيدًا عن فلسفة هل الوباء غضب الله على الكفار أم ابتلاء للمؤمن، وهي الفلسفة التي تغيرت دفتها بحسب معدل ووجهة انتقال الفيروس، فإن الهدوء الذهني والصفاء الفكري وحتى جودة الهواء الأفضل تدعو إلى تأمل ما جرى بـ"فضل" كورونا.
عشرة مفاهيم أو مواضيع سأسردها سريعًا أراها جديرة بالتفكير. الصحف الورقية وما كشفه الفيروس من هشاشتها وضعفها تستحق تحركات سريعة في أقرب فرصة ممكنة. وبعيدًا عن دراما عبارات: "إطلاق رصاصة الرحمة"، و"ضرب خيل الحكومة"، ومثل هذه السخافات، فإن وضع الصحافة الورقية في مصر تأجلت مواجهته كثيرًا، وتم الإبقاء عليها بشكلها غير المتطور طويلاً، وحان وقت فتح ملفها؛ لتعديل كيانها وتحديث وجودها من ألفها إلى يائها.
ياء الصحف الورقية تدعونا كذلك بـ"فضل" كورونا إلى تحليل تعامل شعوب الكوكب مع ذراعي الإعلام: التقليدي (مواقع خبرية وقنوات تليفزيونية وإذاعية، ومواقع تواصل اجتماعية تابعة للإعلام التقليدي)، وغير التقليدي حيث صناعة المحتوى للمستخدم العادي. صحيح إن طوفان الفيديوهات والتدوينات والتغريدات والصور التي يصنعها المواطن العادي تنتشر انتشارًا رهيبًا، لكن يمكن ملاحظة أيضًا عودة –ربما تكون مؤقتة بفعل الأزمة- لمكانة الإعلام التقليدي مصدرًا موثوقًا فيه للمعلومات الرصينة بعيدًا عن فيديو جوز بنت خالة جارة ابن عم خال مراتي الذي يحذر فيه من تفشي الوباء هنا، أو إعادة مشاركة معلومات مطموسة المصدر عن الطيور العملاقة التي ظهرت في دول جنوب المحيط الهادي التي تحمل رسائل إلهية خاصة بالفيروس.
والرسائل الخاصة بالفيروس التي كشفت "بارانويا" لدى كثيرين حول: "مفهوم الأديان، وعقاب السماء، ورضا الرب، وسبل التعامل الروحاني مع الموقف"، تستحق كذلك منا نظرة. فمن حولوا الدين – أي دين- إلى ظلام وسواد وعذاب وجعلوا منه: "طريقة للوصول إلى الموت عبر إلغاء العلم، وطمس المنطق، وتحويل الإنسان إلى كائن يبكي خوفًا، وينهنه ضعفًا؛ ليكون أقرب إلى الله"، عليهم النظر إلى أنفسهم في المرآة، بينما هم قابعون في بيوتهم منتظرين وصول "الكفار" إلى مصل أو علاج.
والوصول لمصل أو علاج يحتاج فكرًا، وإرادة وتعليمًا، ومالاً وفيرًا. وربما يستوجب ذلك نسفًا لأولوياتنا العقيمة من منطلق أن ما يحتاجه بيتك من علم وبحث وعلاج ووقاية يحرم على دور العبادة، وهو ما لا يعني إلغاء الدين ومحاربة المتدينين، لكنه يعني تطبيق الدين تطبيقًا عمليًا حتى لا يموت المتدينون.
المتدينون عن حق هم من يتبعون أصول النظافة الشخصية والعامة. يستحمون ولا يلقون بالقمامة (وحاليًا الكمامة) في الشارع ولا يتخلصون من مخلفاتهم في منور العمارة أو نافذة السيارة أو في الشارع. ومهما بلغ تدينهم من شدة تجعلهم يتضرعون إلى الله في ظل الأزمة على مدار ساعات اليوم الـ24، فإن افتقاد مفهوم النظافة لن يقيهم شرور كورونا وغيرها من الفيروسات.
وقد ثبت أن الفيروسات لا تفضل أتباع دين على دين، أو لون على آخر، فالجميع سواء أمام هجمته الشرسة، وهو ربما ما يوخز ضمير وقلب وعقل من يختصون أنفسهم بالدعاء مع الدعاء على الآخرين.
الآخرون الذين سبقوا في عالم الرقمنة تعاملوا مع الوضع الطارئ بشكل أفضل، سواء من حيث التعليم أو الخدمات الحكومية والمصرفية والخدمية.
ومن أبرز خدمات "كورونا" أنها وضعت حقيقة علاقاتنا الأسرية تحت مجهر البقاء في البيت. البعض يتحدث عن عودة دفء مفقود وتجمع منشود، لكن كثيرين يؤفئفون من هذا التقارب الذي لا يعتادونه ويتخوفون من آثاره، سواء بين الزوج والزوجة، أو الأهل والأبناء. وهذا جدير بالبحث والتقصي.
والتقصي يجب كذلك أن يمتد لأوليات حياتنا. وبعيدًا عن الدعوات الوهمية بإعادة ترتيب الأولويات؛ ليكون جميعها ملائكيًا روحانيًا نورانيًا، فقط نحتاج إلى: "تنفيض" أولوياتنا وترتيبها ترتيبًا يبهجنا بشكل أفضل.
وأفضل ما جرى في زمن كورونا هو كشف الستار عن مساوئ البعض من البشر حيث بارانويا الدين والشعور الكاذب بالفوقية، وكذلك إعادة اكتشاف محاسنا من حيث حب الخير وتمني السلامة لمن نعرفهم ومن لا نعرفهم.