عالم في العراء (2)
يبدو عمار على حسن ،فى مقدمة كتابه "عالم فى العراء"، كما لو كان يجود علينا ببعض تجاربه وتجارب كتاب وأدباء آخرين مع الفن والسياسة و القراءة والكتب والكتابة، لكى يفيد القارىء بما استفاده هو به من خلاصة سياحته الفكرية المتعمقة فى آراء وتجارب ومواقف كتاب وأدباء وشعراء أثرت فيه وحفرت فى ذهنه رؤى وتصورات إيجابية بشأن قضايا وظواهر اجتماعية وسياسية وأدبية ، وعلى رأس هذه القضايا الإعلام الجديد وثقافة التسامح واللغة كمدخل فلسفى وفلسفة الأبوة والأبوية.
ويؤكد الكاتب أن مواقع التواصل الاجتماعى تعزز من مفهوم الصحافة الديمقراطية ،والتى تعنى بتصنيف القصص الخبرية وفق تصويت القراء عليها، حيث بات يؤخذ فى الاعتبار رأى الجمهور فيما يتم ترويجه من قصص. وبذا صارت هذه الصحافة، أكثر ملاءمة لسياق ديمقراطي، يراعي حق التعبير والتدبير، وإعلاء القانون، والتمسك بالقيم والمسارات المدنية، وإزكاء الشعور بالمصلحة العامة.
ويرى الكاتب أن الإعلام الجديد ابن شرعى لليبرالية ويربط بينه وبين التطور الرأسمالى وزيادة الاعتماد على تكنولوجيا الزكاء الاصطناعى والتكنولوجيا الرقمية،ويتحدث باستفاضة عن القيم التى ترتكز عليها الليبرالية ، والتى يستفيد منها الإعلام الجديد ويخدمها ويناقضها فى الوقت نفسه ، وهذه القيم هى،(المواطنة، حرمة الحياة الخاصة،المشاركة أو الانخراط السياسى، الحريات العامة ، التعددية ، اللامركزية، السوق المفتوحة).
وتحت عنوان "الإعلام الجديد ..أداة للتحرر أم الإكراه" يشرح الكاتب خصائص الإعلام الجديد ويطرح سؤالا كبيرا ويحاول الإجابة عليه بالمعلومة والفلسفة والمنطق ،والسؤال هو ، هل مثل هذا النوع من الإعلام يعزز التحرر؟ أم يشدد القيود؟، وفى سياق إجابته على السؤال يوضح الكاتب أن مساحة الحرية فى الإعلام الجديد ، هى مساحة للقول وليس للفعل ، ويشرح التحول الكبير فى السياسة والإعلام الذى أحدثه صنع الهاتف المحمول،ودوره فى تعزيز الشفافية ومراقبة السلطة فى ملف انتهاكات حقوق الإنسان.
ويلفت الكاتب الانتباه إلى نقطة غاية فى الأهمية ، تتمثل فى أن الإعلام الجديد ليس بوسعه أن يمارس فائض الحرية فى كل مكان وزمان ،لأن الحكومات ، بما فيها حكومات الدول الديمقراطية تتدخل لتقليص هذا الفائض بقوانين وإجراءات قاسية للرقابة والتحكم فيه، خاصة أن الأنظمة التسلطية تمتلك تقنيات للمراقبة والتحكم فى الإنترنت، ولديها إجراءات لتقييد الحريات منها دوائر الذباب الإلكترونى التى تستهدف المحتوى الإعلامى لمستخدمى مواقع التواصل الاجتماعى.
وأخطر ما فى الإعلام الجديد أنه يخدع كثيرين بتحقيق الرضا الزائف عن المشاركة السياسية ، وذلك لاعتقاد أغلب المتداولين لمواقع التواصل الاجتماعى، على نحو خاطىء، أن ما يفعلونه فى العالم الافتراضى يعوضهم عن النزول إلى الشارع،أى إلى عالم الواقع، فالأدوات الرقمية ، بحسب رؤية الكاتب،يمكنها صرف انتباه المواطنين عن العمل السياسي عبر الترويج للترفيه الشخصي، وإضعاف المقاومة الديمقراطية من خلال منح الناس وهما يبدو آمنا، ولكنه سطحي، بأنهم يمارسون العمل السياسى،ناهيك عن قدرة السلطات المستبدة على التقليل من تأثير الإعلام الجديد من خلال توظيف ميليشياتها الإلكترونية في صناعة هشتاجات وتريندات زورا وبهتانا تؤثر على الرأى العام وتجعل الأغلبية لمساندتها فى قراراتها وإجراءاتها.
ويضر الإعلام جديدا كان أو قديما ، وفق رؤية الكاتب، بالقيم الديمقراطية والليبرالية لأنه يستخدم لخدمة مشروعات سياسية واقتصادية مثل المشروع الامبريالى،وثورة الاتصالات تحمل فى ركابها أضرارا منها الحرب الالكترونية بما فيها سباق التسلح السيبرانى والجريمة الالكترونية كاختراق السجلات القومية ونشر الإباحية،وتقوية النزعات الاستهلاكية، التي قد تودي بالناس إلى التشيؤ، والوقوع في شكل من العبودية الطوعية.
ويتناول الكاتب ثقافة التسامح وحاجة المجتمعات البشرية لها فى كل العصور،كحاجتها لها فى الماضى فى ظل الصراعات الدينية، وحاجتها لها فى الحاضر فى ظل ظاهرة العنف والإرهاب، ويشرح التطابق بين المعنى اللغوى والاصطلاحى للتسامح من حيث الهدف والمراد، ويؤكد أن التسامح قيمة إنسانية عليا لم يعد بمقدور الدول والمجتمعات الاستغناء عنها، خاصة بعد تطور معنى السياسة من فن الممكن إلى فن إدارة الاختلاف، وفى ظل الحاجة الماسة للتماسك الاجتماعى ، بما يجعل من قضية التسامح ضرورة اجتماعية.
والتسامح،وفق رؤية الكاتب،أربعة أنواع، دينى وفكرى وسياسى واجتماعى،ويشمل الإقرار باختلاف اللغات واللهجات،ومعها الآراء والأفكار بدون تعصب أعمى للغة الأم، باعتبار ذلك سنة حياتية، والتسامح له رافدان، أحدهما طوعى "فردى" قائم على الإرادة الفردية، والثانى :إلزامى "جمعى" يفرضه القانون ويحميه ويعاقب من يخالفه، وكل هذا يوضح أن مفهوم التسامح مر بمرحلتين، الأولى تقليدية تقوم على "الأبوية"،والثانية حديثة،حيث يصبح التسامح مبدأ قائما على الحق وليس قائما على المزاج الشخصى.
وينتقل الكاتب إلى معوقات التسامح ويحذر منها وينصح الجميع بضرورة العمل للتغلب عليها، ويحصرها فى ست معوقات هى، استمرار حالة التوحش فى نفوس بعض البشر،وجهل البعض بالعواقب الوخيمة المترتبة على عدم إدراك عواقب الكراهية، والظروف الصعبة التي تواجه المجتمعات التي تعاني من ندرة الموارد، و الأيديولوجيات التي تقود إلى التعصب ، والصراع حول المصالح والمعتقدات،و سياسات بعض الدول التي تقوم على أساس الدين أو العرق.
ويتطرق الكاتب إلى تاريخية التسامح فى المجتمعين العربى والغربى، ويعرض لهما بتفصيل دقيق وعلمى ،ويوضح أن قضية التسامح الديني لم تتبلور نظريا بشكل محدد المعالم فى العالم العربى، إلا مع كتابات "إخوان الصفا"،حيث لم تشتمل رسائلهم على عبارة صريحة أو ضمنية تنطوي على تعصب لشعب على آخر، أو لأمة على أخرى. وينهض التسامح لديهم على أساسين هما: 1ـ الأديان متماثلة في حقائقها الإلهية، 2 ـ اكتساب الفرد لدين ما لم يقع باختياره، بل تم في صغره وترسخ في نفسه، بحيث عاد لا يستطيع الخروج عليه، ما يجعله غير مسؤول عما لا يرضى الآخر، ويختتم الكاتب حديثه عن التسامح بعرض تجربتين فى نقد التعصب ودعم قيمة التسامح ، تحت عنوان" تجربتان فى نقد التعصب ..سيرة ورواية" ، وهما سيرة ومؤلفات وترجمات ومقالات ودراسات الناقد الدكتور صلاح فضل، وراوية "المايسترو" للكاتب الموهوب سعد القرش.
وتحت عنوان "اللغة كاقتراب فلسفي" يستعرض الكاتب العقلية النقدية التى يتحلى بها الدكتور مجدى الجزيرى، والتى تجعله مجبولا على رفض التلفيق والتناقض، وقادرا على تعقب المشروع الفلسفى لحسن حنفى، ويوضح الكاتب أن الجزيرى واجه الجوانب السلبية للوعى الأسطورى واعتبرها أخطر ما يواجه أي أمة، لأنه يرميها في مستنقع التخلف والركود الثقافي والعلمي والحضاري والاجتماعي والسياسي، ويحول بينها وبين التنوير.
ويركز الكاتب فى حديثه عن الجزيرى، على ملمح أساسى يميز منتجاته النقدية والأدبية،وهو نظرته إلى اللغة،باعتبارها ليست مجرد أداة تعبير، أو وسيلة تواصل، إنما هي مدخل فهم، واقتراب رؤية، ومنهج دراسة، وأداة تحليل، ويؤكد أن هذه المسألة صارت من المساقات التي تهتم بها الدراسات العلمية الحديثة في مختلف العلوم الإنسانية، بل في بعض جوانب العلوم الطبيعية،ويشير إلى أن الرؤية النقدية التي يتسم بها تصور الجزيرى امتدت إلى شرح وتحليل الدور الذي تمارسه اللغة في فهم الواقع، ومن ثم الارتقاء به،أو تطويره، فاللغة،ومنها اللغة العربية تبدو، وفق رؤية الجزيرى النقدية،محددا رئيسيا لا يمكن تجاهله في العلم والسياسة وغيرهما،ولا يجب أن نقتصر في نظرتنا إليها على أنها مجرد وسيلة للتعبير عن الأفكار والمواقف،إذ إنها في حد ذاتها موقف وفكرة،لا يمكن نكرانها، وهى رؤية يبدو فيها الجزيرى متأثرا بفلسفة كاسيرر،التي تقوم على أن اللغة هي مفتاح قوي لفهم كل شيء، الموضوعي والذاتي.