محمد الشاذلي يكتب: نجيب محفوظ والصحافة..
اقترب الأستاذ نجيب محفوظ والذي تحل ذكرى رحيله الخامسة عشرة اليوم الإثنين من الصحافة كثيرًا، وذلك من خلال كتاباته الأولى، واللقاءات والحوارات التي أجرتها معه، والكتابات النقدية عن أعماله، والتي لم تكن لتجد متنفسًا لها سوى المجلات والصحف، ومن خلال صداقاته الواسعة والقوية في الوسط الصحفي.
وإذا كان محفوظ قد بدأ حياته بالترجمة وبكتابة المقالات الفلسفية والقصص القصيرة، قبل أن يحسم أمره ويختار الأدب كطريق نهائي، فإن حياته بعد ذلك شهدت إقبالًا كبيرًا يصل إلى حد الإغراء، لكي يكتب هو بنفسه ما يحلو له في الكثير من الصحف.
لكن السؤال الجوهري الذي لم يجب عنه أحد أبدًا هو: هل كان نجيب محفوظ يحب الصحافة أو يرتاح لنماذجها التي أوردها في متحف شخصياته القصصية والروائية.
ولقد اقترب أستاذ الإعلام والدراسات الثقافية بكلية الإعلام جامعة القاهرة د. محمد حسام إسماعيل من هذه النماذج في كتابه الجديد "الصحفي في أدب نجيب محفوظ" (العربي للنشر والتوزيع 2021)، واعتبر إسماعيل دراسته الأكاديمية محاولة لاكتشاف جوهر صورة الصحفي عند محفوظ، ويرى أن النماذج الصحفية في أدب محفوظ لا تخبرنا فقط عن خواص زمنية للمهنة، وقت كتابة الرواية أو القصة القصيرة، بل تتجاوز ذلك إلى الثابت عبر الزمن، ألا وهي الثقافة.
ويعي إسماعيل أن الصحافة التي عرفها محفوظ هي ليست نفسها الآن بعد التطور الحاصل في الكتابة الإلكترونية، لكن هذا لا يمنع عنده من تكرار نموذج أو صنف من الصحفيين كرهه محفوظ، وعده مثل المجرمين الذين يفلتون بجرائمهم، كشخصية الصحفي رؤوف علوان في رواية "اللص والكلاب".
ويشير إسماعيل إلى أن مفهوم الصحفي كما قدمه نجيب محفوظ في قصصه ورواياته، قد شارف على الانتهاء بانتهاء الصحافة الورقية وغلبة الإنتاج الإلكتروني متعدد الوسائط على الإنتاج الإعلامي في المستقبل، بل وإحلال الروبوت محل البشر في الإنتاج الصحفي، فضلا عن الضغوط المتعلقة بالملكية والإنتاج.
وتناول إسماعيل النماذج التي كتبها محفوظ في رواياته وقصصه بالتفصيل، شارحًا أدوار كل شخصية، في إسقاط على الصحافة في الزمن الراهن، وإمكانية تطابق بعض الشخصيات في الوسط الصحفي مع شخصيات من أدب محفوظ مر عليها الآن قرابة نصف القرن.
وكان محفوظ - خريج قسم الفلسفة بآداب القاهرة في ثلاثينيات القرن الماضي - قد اقترب من مهنة الصحافة بحذر، عندما كتب في مجلة "المجلة الجديدة" لسلامة موسى بعض المقالات الفلسفية.. لكن سرعان ما ابتعد عن الكتابة للصحف، وتفرغ للأدب، تحت مظلة أمان الوظيفة الحكومية ذات الدخل الثابت والمضمون، فيما بقي ملتزمًا بالوظيفة الحكومية حتى إحالته إلى المعاش.
واستقى محفوظ من الوظيفة أو هي أمدته بالكثير من النماذج البشرية، وأنها مع الحارة والمقاهي مصدر أساسي في أدبه، واعتبر محفوظ أن الوظيفة أخذت نصف يومه لمدة 37 سنة، لكنها علمته النظام، وحكى أنه استمع لنصيحة زميله في وزارة الأوقاف الكاتب كامل كيلاني بعدم إطلاع أحد على أنه أديب، حتى يتفادى المشاكل والأحقاد، ولم يفضحه سوى الفنان فريد شوقي؛ لأنه والسيد بدير ذهبا إليه في مكتبه ليتحدثا معه عن سيناريو فيلم "جعلوني مجرمًا".
كان يفضل أن يكون مجهولًا.. هكذا قال للأستاذ رجاء النقاش، كما قال لجمال الغيطاني في كتاب "نجيب محفوظ يتذكر" (دار المسيرة بيروت 1980)، إنه رفض عرضًا من مصطفى أمين بنشر قصتين في الشهر مقابل ضعف راتبه الحكومي، وكان يمر بأزمة مالية، ذلك سنة 1944، لكنه رفض؛ لأنه كان مشغولًا بكتابة الرواية.
وفيما بعد، تقريبًا في نهاية السبعينات، أهداه مصطفى أمين أحدث كتبه: "إلى الكاتب الذي أردته أن يكتب يومًا في أخبار اليوم فرفض"، (وكتب الغيطاني أنه سأل مصطفى أمين عن الواقعة فقال له إنه عرض على محفوظ أربعين جنيهًا في الشهر، بينما راتبه في الأوقاف ثمانية جنيهات شهريًا).
وروى محفوظ في مذكراته التي خص بها النقاش "نجيب محفوظ.. صفحات من مذكراته وأضواء جديدة على أدبه وحياته" (مركز الأهرام للترجمة والنشر 1998)، أن الكاتب إبراهيم عبدالقادر المازني كان يمكن أن يكون له شأن خطير في عالم الأدب لولا أن العمل الصحفي استغرقه.
ويعرف المتتبعون لسيرة محفوظ أنه ظل يرفض عروضًا صحفية أشهرها عرض رئيس تحرير الأهرام الأستاذ محمد حسنين هيكل للعمل بالصحيفة الأشهر في مصر والوطن العربي، وظل يراوغه لعشر سنوات وأخيرًا قبل بعمل كاتب غير متفرغ بشروطه هو أي بعد الستين، بعد التقاعد من الوظيفة الحكومية.
وشهدت "الأهرام" حفلًا غير مسبوق في محاولة للتعاقد مع محفوظ يوم عيد ميلاده الخمسين، بحضور سيدة الغناء العربي أم كلثوم التي يعشقها محفوظ، وأطلق اسمها على ابنته الكبرى، ولما أبلغه صلاح جاهين بأن اسمها الحقيقي فاطمة، فقد أطلقه على كريمته الثانية.
ثم رفض محفوظ بعدها عرض الرئيس السادات برئاسة مجلس إدارة مؤسسة روزاليوسف، وقال لصديقه الزميل الصحفي إبراهيم عبدالعزيز في "ليالي نجيب محفوظ في شبرد" (منشورات بتانة 2017): لم أحب أن أضيع وقتي.
"عن الأهرام"