العمران.. ثقافة إسلامية
العمران في الثقافة الإسلامية له دلالات عدة، فهو نقيض الخراب، هو التحضر والمدنية، وما تعمر به الأرض، بواسطة الصناعة والتجارة والبناء، وحضور الإنسان بفاعليته هو أساس العمران، ومن هنا شيد المسلمون حضارة لها منظومة فكرية وعملية متكاملة، الإنسان محورها، فهو الذي يعطي العمران معناه ووظيفته، والله غايتها فهو خالق كل شيء.
وقد اكتسب العمران أبعادًا وتنوعًا في الأرض التي نعيش عليها، بحجم الحضارات والأديان الاخرى التي استقر لها المقام في أوطانها، وصار لها مراكز حضرية عمرانية بدورها، لكن هذا الكتاب الصادر أخيرًا عن الدار المصرية اللبنانية في القاهرة بعنوان "العمران.. فلسفة الحياة في الحضارة الإسلامية" للدكتور خالد عزب، اختص في مقاصده وأسبابه العمران في المدن الاسلامية، وكيف قاد العمران أو عناية العلماء المسلمين بهذا العلم واهتمام الحكام، وخاصة الناس وعامتهم به، إلى نشوء علم العمران في بلاد الإسلام، واعتراف العالم بذلك وشهرة ابن خلدون في تأسيسه، والتي طافت الآفاق، ومن ثم السبق والمجد فيما يشهده التاريخ من تطور عمراني مذهل في كثير من العصور والدول الإسلامية..
ومن خلال الطرح القرآني لتكليف الإنسان بعمارة الأرض، من سورة هود: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها" فقد أدرك المسلم أنه مكلف بعمران الأرض، وتنتشر في الكتاب شروح ذات ارتباط وثيق ما بين العمران في الحضارة الإسلامية ومبادئ وأحكام وأركان الإسلام نفسه. وفي ظني أنه لو لم يكن للعمران في الدول الإسلامية تلك العلاقة وذلك الارتباط، كان يمكن أن نرى عمرانًا من نوع مختلف، فرموز ووظيفة المسجد أفردت له مساحة في العمران في الحضارة الإسلامية في كل عصورها ومراكزها، لموقعه وتصميمه ومآذنه وقبابه ومنابره، وفضيلة الصدقة في المجتمع الإسلامي أنشأت مؤسساتها وبمقاييس عمرانية محددة.
وكذلك فإن الاشتغال بالعلم أو بطلبه الذي حث عليه الإسلام، وبذله للبشرية، تجلى في عمارة الأرض، من المؤسسات البدائية (الكتاتيب) والجوامع ثم المدارس وما لزمها من أوقاف للإنفاق المستدام عليها، والاهتمام والتنافس غير المسبوق في اقتناء الكتب وازدهار حركة التأليف في المعارف والصنائع والعلوم، ويرد في الكتاب أسماء مؤلفات عربية لم يكن أحد يتصور التأليف فيها، مثل كتب هندسة بناء الحمامات، ومنها كتاب الشيخ عبد الرءوف المناوي "النزهة الزهية في أحكام الحمام الشرعية والطبية".
في الوقت الذي تطور فيه استخدام العلم في تطبيقات العمارة والزخارف الإسلامية الخاصة بالمساجد وبكافة الأبنية، وكذلك بالآلات الحربية والموازين والسفن، وبسبب من عمارة الأرض فقد برع العالم المسلم في الخرائط، وبناء المستشفيات التي اعتمدت على سبل الوقاية ربما أكثر من العلاج، والمطابخ العامة التي تقدم الطعام للفقراء والمساكين.
ازدهرت العمارة في عصور كثيرة وارتبطت بمفاهيم إسلامية، مثل الإتقان، في سورة النمل: "صنع الله الذي أتقن كل شيء"، والآثار الإسلامية التي وصلت إلينا من نماذج العمارة والصناعات، تشير إلى ذلك الإتقان، وتفسر جماليات المنتج في الحضارة الإسلامية، إن لفظ "الزينة" ومشتقاته في القرآن الكريم كان حاكمًا في إدراك الجمال عند المسلمين، فاهتموا في عمارتهم بصور مستحسنة ومستحدثة، كالنقوش والخطوط الحسنة والتذوق الواضح في إدراك المعنى.
كما كان طلب النظر في مخلوقات الله بحكم القرآن وسيلة مقترنة بالعمران، خصوصًا في الإبل، من سورة الغاشية: "أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت". وبفضل تقنية الجمل استخدمت طرق قصيرة وسريعة عبر الجبال والوديان والوهاد، رافقها إنشاء محطات على أبعاد كبيرة فيما بينها، وهجن العرب سلالات من الجمال تحمل أثقالا أكبر وأكثر سرعة.
وإذ تتراكم التجربة العمرانية لدى المسلمين، فإن ذلك أدى إلى بناء قواعد عامة، كما يذهب المؤلف، في مقدمتها لفظ الحق الذي هو العدل في الحكم والإنصاف في القضاء وإحقاق الحقوق وتثبيت القيم. وانعكس مفهوم الحق في القرآن الكريم على حياة المسلمين باعتباره ضمانًا لمصالح الناس كافة، مما دعم عمارة الأرض..
واللافت أن الاعتراف بالحقوق صاغ الفضاء العمراني، الذي رتب الحقوق المجردة، مثل حق الشرب والمرور والجوار وهو ألا يضر الجار بجاره ضررًا فاحشًا، وعلى قاعدة "لا ضرر ولا ضرار" في الحديث الشريف، تم منع ضرر الصوت، من أصوات الجيران المسببة للضوضاء، إلى أصوات المؤذن وعدم المغالاة فيها، أو صوت العمال في بعض الأشغال، وضرر الدخان والروائح، مما وضع شروط لحفظ الهدوء والسكينة ومنع الخطر.
وفي حقوق الجوار فإن المادة اللغوية لكلمة (جار) تدور على معاني النصرة والتعاضد، أما الامتناع عما يؤذي الجار فهو واجب ديني للحديث الشريف: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" و"من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره".. كل هذا بعيد الآن وسقط من سلوكيات الجيرة الحديثة في مصر، لكنه في فقه العمران كان قاعدة نافذة.
ويرى المؤلف أن العناية الفائقة بعمارة الأرض أدى لدى المسلمين إلى نشوء علم العمران وفلسفته، وأن هذه المثالية اقتربوا منها تارة وابتعدوا عنها تارة أخرى، فلما ابتعدوا أضاعوا سبقهم ومجدهم.