المحروسة.. «أم الصابرين»

كأن الفنانة شادية أرادت أن تقدم تفسيراً لوصف «أم الدنيا» الذى دأبت شعوب العالم على استخدامه عند الحديث عن مصر، حين شدت برائعتها «يا أم الصابرين». فمصر «أم الدنيا» لأنها «أم الصابرين». فكيف لشعب أن يصمد فوق ظهر الكوكب لآلاف السنين إلا أن يكون صبوراً؟. صدى العبور الصامد فوق الزمن تجده مرسوماً على وشوش المصريين خطوطاً تنطق بالصبر «الطيب»، الصبر الناتج عن حكمة السنين التى تقول إن كل شىء يتغير «الصبر طيب.. أنا رايح وبكره جاى».. الصبر المؤمن الواعى بأن السماء تختبر صبر المؤمن بالشدائد: «الصبر طيب.. صبر أيوب شفاه».. الصبر المرفرف بأجنحة التجربة الإنسانية المدركة لحقيقة أن الصبر سلاح ماضٍ فى مواجهة الشدائد: «من صبر ظفر».

الصبر لدى المصريين تاريخ وإيمان وثقافة.

تاريخ المصريين يكاد يكون مجموعة من الموجات المتعاقبة من الصبر. ولو أنك أمسكت بعدسة الصبر وأخذت تقلب فى صفحات الماضى البعيد فسوف تطل عليك أول ما يطل صورة «الفلاح المصرى الفصيح» الذى يكد ويعرق فى زراعة حبات القمح، لتصبح بعدها نهباً لكل من هبّ ودب، بما فى ذلك طيور السماء التى لا تتوانى عن التقاط ما تبقى له من فتات، وهو أمام كل ذلك صابر، يرفع شكواه إلى الفرعون ويظل يدافع عن نفسه بخطب بليغة، يستزيده منها الفرعون الذى ثمل بنشوة البلاغة التى تقطر من كلماته وفصاحة المنطق الذى يعرض به قضيته، يترافع عن نفسه لأيام دون كلل أو ملل متذرعاً بمخزون الصبر الذى ينسج خلايا روحه المحبة للحياة.

وامتد حبل الصابرين بعد ذلك طيلة سنوات الحكم الرومانى، وخلال المراحل المختلفة التى تقلبنا عليها بعد الفتح العربى. تقلب علينا الطولونيون والإخشيديون ثم الفاطميون ومن بعدهم المماليك، وأعقبهم الترك العثمانيون.. وحبل الصبر على «الجار السَّو» على استقامته.. قرون ممتدة من عمر الزمن لم يكن يزول عنا فيها طامع حتى يأتى غيره.. والمصريون صابرون.. والسر فى ذلك بسيط.. إنه «الصبر الطيب» الذى تحول فى قلوب المصريين إلى «سلاح» فى مواجهة ما مر عليهم من مِحن حملها إليهم الأغيار. عبر سلاح الصبر ابتلع المصريون كل هؤلاء، وأذابوهم، حتى لم يبق منهم أحد: «هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً».. زالوا جميعاً وبقى المصريون.

الصبر عند المصريين قيمة إيمانية تجد جذورها فى الأديان والمذاهب الدينية التى تقلبوا عليها. قيمة تتفهم أن الصبر لا يكون صبراً إلا على المكروه: «والصّابِرينَ فى البأْساءِ والضّراءِ وحينَ البَأْس».. فالفقر بأساء.. والمرض ضراء.. وقتال الأعداء بأس.. ولا صبر يعدل صبر الإنسان فى هذه المواضع الثلاث.. وصبر المصريين «جميل» عملاً بالتوجيه القرآنى: «فاصْبِرْ صَبراً جَميلاً»، لأنه صبر بلا ضجر ولا ملل، إنه صبر واثق تلعب حكمة الإيمان الدور الأكبر فى رسم جمالياته.

فحكمة الإيمان تقول إن كل شىء -مهما طال به الأمد- إلى زوال: «إنَّهم يَرَونَه بَعِيداً ونَراهُ قريباً».. فالصبر كما يؤمن به المصريون قادر على تفتيت قلب الحجر فى الدنيا.. وعند الله الجزاء عنه فى الآخرة: «إنّما يُوَفَّى الصّابِرونَ أجرَهُم بِغَيرِ حِساب».. إنه المعنى الإيمانى الراقى الذى التقطه «شحاتة أفندى» -فى رواية «السقا مات» ليوسف السباعى- حين دخل شقة «شوشة» لأول مرة. نظر إلى مجموعة من البراويز المتراصة على الحائط وتحمل جميعها آيات عن الصبر: «وبَشِّرْ الصّابِرين».. و«الصّابِرينَ فى البَأْساءِ والضَّرّاءِ».. أدرك «شحاتة» أن معنى الصبر هو الوقود الذى يستعين به «شوشة»، ويساعده هو نفسه وغيره من بسطاء المصريين، على مواصلة الحياة.

ولو أنك فتشت فى الوجدان الشعبى فلن تجد مخزوناً لقيمة لدى المصريين أشد ثراءً من قيمة الصبر.. لم يخلد موال فى وجدان المصريين مثلما خلد «موال الصبر» الذى شدا به محمد الكحلاوى وشفيق جلال وربما غيرهما.. وأشهر بطل شعبى غنى له المصريون هو نبى الله «أيوب» الصابر المحتسب، استمع إلى موال خضرة محمد خضر وهى تغنى كلمات زكريا الحجاوى التى استوحاها من قصة «أيوب» فى موال: «أيوب وناعسة».. وأخلد مقطوعة موسيقية أبدعها «أحمد فؤاد حسن» كانت «أيوب».. أما عن الأمثال الشعبية فحدث ولا حرج، بدءاً من «اصبر تنول» وانتهاءً بـ«الصبر مفتاح الفرج».. واللافت على هذا المستوى أنك لا تجد شعباً اشتهر فيه اسم «صابر» كما اشتهر لدينا كمصريين.

كأن الصبر لدينا ليس مجرد عنوان لحكاية شعبنا الطيب، بل مكتوب على «اسم مصر».. طوبى للشعب الذى عاش بالصبر.. وآمن به.. وغنى له.

المقال / د محمود خليل 

الوطن

التعليقات