المترفون الوارثون

للوراثة معنيان.. معنى طبيعى عرفه البشر عبر تاريخهم وأقرته الأديان يقوم على وراثة الأبناء أو الأهلين لما تركه الآباء من ثروات وأملاك.. ومعنى آخر مصنوع يقوم على وراثة الأبناء لمواقع الآباء أو لنفوذهم أو حتى لشهرة اسمهم.. النوع الثانى من الوراثة يقدم لنا نوعاً جديداً من المترفين، هم المترفون الوارثون.

تصور طفلاً نشأ فى بيت عز، الأب فيه صاحب موقع يدر عليه دخلاً محترماً ويمنحه هيبة ونفوذاً تمتد ظلاله إلى الطفل، الذى يعامله كل من حوله على أن أباه فلان أو علان، وحينما ينتقل الطفل إلى مرحلة المراهقة يأخذ الوالد موقعاً أكبر تزيد معه الثروة والحظوة والمكانة، ولك أن تتخيل أثر ذلك على نفسية مراهق ودوره فى تعزيز إحساسه بأنه وُلد كبيراً، ويُعدّ لدور كبير، ثم تصور أن الوالد حصل على موقع أكبر فى مرحلة الشباب، واستمر فى موقعه حتى وصل طفل ومراهق الأمس وشاب اليوم إلى مرحلة النضج والرجولة، ثم هام فى خيالاته وبات يحلم بنفسه يجلس فى مكان الأب.هذا النوع من المترفين لا يدرى أن المكان أو المكانة مسألتان لا تتحققان بالصدفة الوراثية، بل بجهد واجتهاد من صاحبه، تبعاً لشروط الموقع الذى يوجد فيه، بالإضافة إلى الظروف المواتية.

فالسياقات تتدخل فى تحديد الموقع حتى ولو كان المترف الطامح يمتلك الشروط.طبعاً الصدفة ليست أساس الحظوظ فى الحياة، إنها يمكن أن تحدث أو تقع وتحدد مسار شخص معين وتتيح له مكان أو مكانة أبيه، لكن القواعد المنطقية للحياة غير ذلك، وهى كما حكيت لك، يحكمها أمران، توافر الشروط المطلوبة فى الشخص، وتوافر السياق المواتى.عدم الوصول إلى أحلام الطفولة والشباب يصيب الشخص بالإحباط، حين يجد نفسه بعد اختفاء الوالد الراعى، فوقتها تختفى مصادر ضخ الثروة والنفوذ والسطوة والهيبة، ويظل «المترف الوارث» يلهث وراء الحلم، وقد يدفعه ذلك إلى سلوكيات غير منطقية، تزيده نتائجها إحباطاً على إحباط، وألماً على ألم، لكنه فى أغلب الأحوال لا يتوقف، بل يحاول من جديد، وقد يحقق فى النهاية حلمه، أو يقضى عليه هذا الحلم المستحيل.

على مستوى العالم كله تجد أبناء ناجحين فى مجالات عديدة، يعانون هذا الشعور بالإحباط، نتيجة ما نعموا به فى عصر الأب، ثم زالت عنهم النعم المرتبطة به، بعد اختفائه من الحياة.

بعضهم حاول أن يرث مكانة الأب ومكانه ونجح، وهؤلاء قلة فى الأغلب، وهناك من فشل فى ذلك.لعلك تذكر قصة إحسان عبدالقدوس: «لن أعيش فى جلباب أبى» التى قدمت لنا نموذجاً للطفل المتمرد على أبيه والزاهد فى أى مال أو نفوذ مستمد منه وكأنه نموذج غير طبيعى أو مشوه، ونظر الجمهور بعتاب إلى فشله فى محاولة أن يكون نفسه، أو أن يحقق ذاته بذاته، وسعد حين وجد «عبدالوهاب» يعود إلى حظيرة عبدالغفور ويعمل معه فى المهنة نفسها.

النموذج الذى يريد أن يبنى نفسه بذراعيه بعيداً عن موقع أبيه هو وحده النموذج الجدير بالاحترام، أما المترفون الذين يريدون الاستفادة من موقع الأب فنماذج مشوهة تحتاج إلى علاج.

المقال / د محمود خليل 

الوطن 

التعليقات