تكميم
منذ نحو ثلاثة اسابيع ، سمعت للمرة الأولى عن ؛ ”تكوين“ أو؛ ”مؤسسة تكوين الفكر العربى ” . وكان ذلك بمناسبة انعقاد المؤتمر السنوي الأول لتلك المؤسسة ، في المتحف المصري الكبير، والتى لم يكن ليعلم الكثيرين عنها شيئاً ،لولا ما جرى من لغط وضجيج واتهامات ،عقب ندوة أقامتها المؤسسة تحت عنوان ؛ "خمسون عاما على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟“. فما هى يا ترى حكاية ”تكوين“ ؟ . للإجابة علي هذا السؤال ، نذكر أولاً أسماء مؤسسيها و ” مجلس أمناءها“ وهم الاغنياء عن التعريف : فراس السواح (سوريا)، يوسف زيدان، إسلام بحيري، إبراهيم عيسى (مصر)، نائلة أبي نادر (لبنان)، وألفة يوسف (تونس). ثم نذهب إلي موقعها الالكترونى لنتعرف عليها، فنقرأ :
” (تكوين) مؤسسة تعمل علي تطوير خطاب التسامح وفتح آفاق الحوار والتحفيز علي المراجعة النقدية وطرح الأسئلة حول المسلمات الفكرية،واعادة النظر في الثغرات التى حالت دون تحقيق المشروع النهضوى الذى انطلق منذ قرنين .“.
أما عن رؤية ”تكوين“، فنقرأ ، في الموقع أيضاً : ” مؤسسة عربية تنادي إلي تأسيسها مجموعة من المفكرين والباحثين العرب بهدف تعزيز قيم الحوار البناء، ودعم الفكر المستنير والإصلاح الفكري،“….“…كما تهدف المؤسسة إلى إرساء قيم العقل والاستنارة والإصلاح والحوار وقبول الآخر والإيمان بمبادئ السلام العالمى بين المجتمعات والثقافات والأديان . وكذا تمهيد السبيل نحو مستقبل مشرق للمجتمعات العربية والإسلامية من خلال الثقافة والفكر الدينى المستنير …، وبث روح التجديد والإصلاح الذى يعيد للفكر الدينى مكانته اللائقة و… الخ.“.
أما عن هدف المؤسسة فنقرأ : ” تهدف المؤسسة إلى وضع الثقافة والفكر العربى في أطر جديدة أكثر حيوية وتواصلاً وشمولية مع المجتمع العربي ومد جسور التعاون مع الثقافات الثقافات المختلفة في عالمنا المعاصر بهدف تمهيد السبيل نحو فكر عربي مستنير يقوم علي قاعدة فكرية رصينة ومتزنة،وتؤسس جسوراً من التواصل بين الثقافة و الفكر الدينى، للوصول إلي صيغة في النظر والتعامل مع الموروث الدينى باعتبار ان بعض تأويلاته القديمة أدت بالمجتمعات العربية والإسلامية اليوم إلي مآزق اجتماعية و دينية وفكرية ، حيث شكلت تلك التأويلات كثيراً من أشكال وأنماط حياتنا المعاصرة بطريق مباشرة أو غير مباشرة، ما أدى إلي ظهور واحتضان مجتمعاتنا لأفكار متطرفة و تأويلات رجعية أساءت للدين الاسلامى الحنيف ولمجتمعاتنا ..الخ…“.
هذه هي يا عزيزي القارئ ”تكوين ” بقلم مؤسسيها؛ رص كلام جميل ، يعيد ويزيد ، أهداف ورؤى تقليدية ، ولا أي شئ جديد. بل ويمكن أن نفهم أن ” تكوين“ما هى إلا مؤسسة ”تأويل بديل“ للموروث الدينى “، تضاف إلي غيرها من كيانات. أين الخطر ؟ أين المشكلة إذن ؟ لماذا هبت عواصف عدوانية من كل حدب وصوب لتهاجم ”تكوين“ ؟.
المشكلة أن هناك من يتربصون بكل من يجرؤ علي الاجتهاد، بحجة أن ” الاجتهاد له ناسه“ ، يهبون لتكميم أفواه كل من يتجرأ علي التفكير والاجتهاد في الشأن الدينى . والاجتهاد عندهم له شروط ومواصفات و مؤسسات وأدوات وديكورات واكسسوارات . ولكأنما الاجتهاد والتفكير في الشأن الدينى قد اصبح مهنة ولها شيوخ ، مثلها مثل باقي المهن .
التكميم عملية جراحية تجرى لتقليص حجم المعدة وبالتالي ما تستوعبه من طعام. كذلك فإن قصر باب الاجتهاد في الشأن الدينى علي جماعة بعينها ، وترويع من يجرؤ عليه من دونهم ، هو اشبه ما يكون بعملية تكميم للعقل لتقليص مجال التفكير. .
شن البعض حربا علي “تكوين“ بحجة الغضب لطه حسين ،ولم يكن هذا الغضب سوي قناع ، يخفون وراءه اسباب شخصية شتى . والغلطة غلطة من اتاح لهم الفرصة.
مزاح
* في أثناء ندوة “ طه حسين“ المشار إليها، أعتلي المنصة مجلس أمناء”تكوين“ ، فجأة يسأل مدير الندوة ” د. يوسف زيدان“ يسأل زميله الباحث السورى ”فراس السواح ”: ” أنت أهم أم طه حسين ؟ “ فيرد الاستاذ ” فراس“ : ” أنا وأنت أهم من طه حسين.“ ويواصل مدير الندوة ادارة الندوة عادى.
سرعان ما انتشر هذا المقطع من الندوة انتشار النار في الهشيم ،في مختلف وسائل التواصل الاجتماعى ، وتعالت أصوات الاستنكار لفعلة الباحثين المستفزين . وسرعان ما أعلن الباحثان عن أن الأمر لم يكن سوى ” مزاح“ . وليس علينا إلا أن نُسلم بما قالا..“ كانوا بيهزروا “ ، ولكن .. ما كان أغناهما وأغنى المؤسسة ، عن هذا ” المزاح“ ، الذى هو ، ـ فى احسن الأحوال ـ ، مزاح يفتقد إلي الحكمة والفطنة، إذ ما لبث أن اتخذه المتربصون تكأة لبدء حملات الهجوم علي المؤسسة ومؤسسيها . كما ان هذا النوع من المزاح ،قد يُفسر في ضوء ”التحليل النفسى“، بأنه تعبير عن ذوات متضخمة كامنة، و رغبات جادة مكبوتة تقنعت في صورة ”مزاح“. ولكن هذا ليس من أولوياتنا الآن .
* منصة ” ذات ” نكهة سلفية واضحة، تستضيف من يدعى أنه ”خبير متابع للملحدين “ وتفسح له المجال ، ويقوم المحاور بدور ، سنيد لهذا الضيف الذى يهاجم“تكوين“ ويصفها بأنها ”تنظيم سرى للإلحاد تحول للعلن ..وان وصل للحكم سيبيد المؤمنين ، والطائفة التي ستكون لها السيادة في آخر الزمان هما التنويريين و ده ما قبل الدجال مباشرة“ !!. إلي هذا الحد من التجهيل والتفاهة والبله وصلت الأمور.
أما عن من هب وأعلن عن رغبته في مناظرة جميع اعضاء ”تكوين“ معاً ، فهو أشبه ما يكون بحاو يقوم باستعراض ”مجانص“ هزلي سخيف بإحدى الساحات الشعبية زمان.
اختيار الاسم ؛” تكوين الفكر العربى“ اختيار قد يشي بنظرة وصاية استعلائية .
العقول المنفتحة لا تسكن الذوات المنتفخة.
أعمال العملاق ”طه حسين“ ليست محصنة من النقد، مثله مثل كافة البشر مهما علا قدرهم. ولكن يظل البون شاسع جداً بين أثره العظيم في مختلف جوانب حياتنا الفكرية والأدبية، وبين دور منتقديه ،مهما تعددت انجازاتهم.
يقول ”نيوتن“ : “ إنني أري أبعد ممن سبقونى من عمالقة لاننى أقف فوق أكتافهم ”.
* عن المصري اليوم..