«أنهار» والعالم الآخر
ارتبطت فى طفولتى بصداقات كثيرة، ولكن انطبعت فى ذاكرتى إحداهن بصفة خاصة، صديقتى «أنهار»، كانت طفلة غير محبوبة من التلاميذ، ولا من المدرسين، لأن نزعاتها الانطوائية كانت تعكر صفو الفصل، لكنها كانت طفلة ذكية، تجيد إلقاء الشعر وهى مغمضة العينين، لجدها مكتبة ضخمة، ويشجعها على القراءة، ولم تكن على وفاق مع زوجة أبيها، فقد حاولت تلك الزوجة إجبارها على ارتداء الحجاب، وعدم الاختلاط بالناس، فهربت إلى بيت جدها، وعاشت معه، لكن بعد انتهاء المرحلة الثانوية، ورحيل جدها الذى كان عونا وسندا لها، طرأ تحول عليها كان غريبا وشاذا بالنسبة لى، فجدها لم يترك لها إلا مكتبة ضخمة وبضع أوراق صفراء بخط يده، وصندوقا به أوراق زهور جافة وصابونة نابلسى تفوح منهما روائح الزمن العتيق.
فتحت المكتبة لحياتها عوالم سحرية، شكلت وجدانها البصرى والخيالى، وذات يوم عثرت على كتاب، كان غلافه بنيا قديما، وأوراقه تكاد تكون مهترئة، يحتوى على عالم السحر الأسود والشعوذة، غرقت فى تصفحه، وبدأت تنطوى على نفسها أكثر، وبعد مدة رسخ فى ذهنها أنها وهبت قوى خارقة، وبدأت تمارس طقوسا وتعتنق أفكارا غريبة، فالنوم غياب مؤقت للروح، والشياطين والأشباح تحاول أن تجعل نومها دائما مما يعنى غياب روحها أى موتها، لذلك فهى تنام ساعات قليلة وهى جالسة، وممسكة بعصا بكلتا يديها، وهى لا تحضر الجنازات أو المآتم خوفا من أن تفر روح الميت إلى جسدها، وتتحاشى المشى فى الشمس حتى لا يداس ظلها، وهى لا تجالس الغرباء، وإذا اقترب منها غريب تقوم بإلقاء المعوذتين عليه (سورتا البقرة والناس)، لتحفظاها من الشرور، وهى لا تأكل ولا تشرب أمام أحد حتى لا تحسدها عيون الناس، وترفض أن تعطى ثيابها القديمة لأحد، وتقوم بحرقها خوفا من استعمالها فى سحر ضدها، وهى تحرم على نفسها أكل اللحوم والطيور بأنواعها اعتقادا منها أنها ستكتسب صفاتها، ويمكن أن تصدر نفس أصواتها، خوار بقرة، أو ثغاء معزة أو نقنقة دجاجة أو مأمأة خروف، ووفقا لتصورها فإن العالم محمول على قرنى ثور.
لذلك فهى تعلق على حائط منزل جدها قرون ثيران، اعتقادا منها أن قوة الثور ستنتقل إليها وتحملها إلى أى مكان فى العالم إذا تعرضت للأخطار، الغريب أننى منذ أيام ألقت المقادير بين يدى كتاب «السحر الأسود»، وبدأت أغوص فى قراءة التعاويذ والرقَى والسحر والقرابين والطقوس السحرية والعكوسات، وعلقت على الحائط قرنى ثور.
* عن المصري اليوم..