من الاكتفاء الذاتي إلى أزمة "عابرة للحدود".. حكاية "أزمة البيض" وكيف هبط إنتاجه للنصف خلال 3 سنوات
للمرة الأولى منذ أكثر من 40 عامًا، أعلنت وزارة التموين عن تعاقدها لاستيراد 30 مليون بيضة مائدة من تركيا، أي ما يعادل مليون طبق.
وتأتي هذه الخطوة في ظل تراجع إنتاج البيض المحلي، حيث توزع الكمية المستوردة على دفعات خلال شهري أكتوبر ونوفمبر.
وتستهدف الوزارة توفير البيض بأسعار مناسبة للمستهلكين، حيث يتم بيع الطبق بسعر 150 جنيهًا في المنافذ التابعة لها.
قبل عامين، كانت صناعة البيض في مصر تُعتبر نموذجًا للنجاح، حيث حققت الاكتفاء الذاتي لفترة طويلة وبدأت في تصدير منتجاتها إلى الدول المجاورة.
واليوم، تبدو الصورة مختلفة تمامًا، حيث شهدت الأسعار ارتفاعًا تاريخيًا، ليأتي قرار الحكومة باستيراد البيض
وعلى مر السنوات، شهد سعر البيض تقلبات طفيفة، حيث كان يتحرك صعودًا وهبوطًا بمقدار قروش.
في عام 2017، تجاوز سعر البيضة الجنيه لأول مرة، ثم ارتفع إلى أكثر من جنيهين في 2021، ليصل الآن إلى نحو 6 جنيهات.
والجدير بالذكر أن اهتمام الحكومة بأهمية البروتين الداجني أدى إلى تأسيس الشركة الوطنية العامة للدواجن في الستينيات.
وبعد نحو عقدين، شهد القطاع الخاص توسعًا في الاستثمار في هذه الصناعة، التي واجهت بعض التحديات، خصوصًا مع انتشار مرض أنفلونزا الطيور في أوائل الألفية الثالثة.
ورغم ذلك، تمكنت الصناعة من استعادة عافيتها وحققت ذروة نجاحها في عام 2021 بإنتاج أكثر من 14 مليار بيضة مائدة، وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
انهيار مفاجئ
مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، شهدت سلاسل التوريد ارتباكًا ملحوظًا وارتفاعًا في أسعار الحبوب.
بينما كانت الأزمة عالمية، فإن مصر كانت تواجه وضعًا أكثر تعقيدًا لسببين رئيسيين.
أولاً، تعتمد مصر بشكل كبير على منطقة البحر الأسود لاستيراد الحبوب، وخاصة الذرة والصويا، المكون الأساسي للأعلاف، حيث تستورد نحو 80% من خاماتها.
وثانيًا، كان الاقتصاد المصري بالفعل على حافة الانهيار بعد خروج الأموال الساخنة من البلاد عقب جائحة كورونا في 2020، ليشهد خروجها مرة أخرى بعد اندلاع الحرب.
وأدى نقص العملة الصعبة إلى شلل حركة الاستيراد، مما نتج عنه تأثيرات متسلسلة سريعة.
وقال محمد الشريف، مدير إحدى أكبر شركات الأعلاف: "النتيجة التي حدثت كانت متوقعة، لأن الصناعة تعتمد على حلقات متكاملة، ولا يمكن لأي حلقة أن تتكسر دون أن تؤثر على البقية".
وعلى مدار عام 2022، امتنعت البنوك عن توفير العملة الصعبة اللازمة للإفراج عن الشحنات في الموانئ، مما أدى إلى تراكم السلع، بما في ذلك مكونات الأعلاف التي اختفت من الأسواق، وظهرت في السوق السوداء بأسعار مرتفعة جدًا.
وانعكس ذلك بشكل كبير على أسعار أعلاف "الدواجن البياضة"، حيث بلغ سعر الطن منها 16 ألف جنيه في نوفمبر، بزيادة تصل إلى 124% مقارنة بنفس الشهر في عام 2021.
وتمثل الأعلاف أكثر من 75% من تكلفة إنتاج البيضة، وفقًا لنائب رئيس الاتحاد العام لمنتجي الدواجن، ثروت الزيني، مما يجعل استقرار أسعار البيض مرتبطًا بشكل مباشر باستقرار أسعار الأعلاف.
وتحت ضغط المناشدات والنداءات، بدأت الحكومة في تحديد أولويات الإفراجات الجمركية، مع التركيز بشكل خاص على الحبوب.
ومع ذلك، لم تكن الكميات المفرج عنها كافية، كما عانت عملية الإفراجات من سوء التنظيم، مما زاد من تفاقم الأزمة.
وفشل آلاف المربين في الصمود أمام التحديات، مما دفعهم إلى إعدام الكتاكيت بعد عجزهم عن إطعامها، وبيع الدجاج البياض كدجاج للتسمين، مما أدى إلى انسحابهم من القطاع.
كما قلصت المزارع العاملة إنتاجها نتيجة ارتفاع التكاليف وانخفاض الطلب.
وبنهاية عام 2022، تجاوز سعر طبق البيض 90 جنيهًا، بعد أن كان 46 جنيهًا في نفس الفترة من عام 2021.
كما انخفض إنتاج مصر بأكثر من مليار بيضة، ليصل إلى 13 مليار بيضة مائدة، وفقًا لآخر تقرير صادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
واستمر تدهور السوق وارتفاع الأسعار في عام 2023، حيث انخفضت الإنتاجية إلى أقل من 12 مليار بيضة، وفقًا لتقديرات أحمد نبيل، رئيس شعبة بيض المائدة، وارتفع سعر طبق البيض إلى 144 جنيهًا.
ومع حلول عام 2024، لم تظهر أي مؤشرات على التحسن رغم انتظام عمليات الاستيراد واستقرار سعر الصرف، وانخفاض أسعار الأعلاف مقارنة بالعامين السابقين.
ووصل سعر طبق البيض إلى أكثر من 200 جنيه في سبتمبر الماضي، وأرجعت مصادر من قطاع الإنتاج الداجني ذلك إلى حاجة المزارع لفترات لا تقل عن خمسة أشهر لإحلال قطعان الدواجن البياضة بقطعان جديدة، بعد توقفهم عن تجديد قطعانهم لفترات طويلة نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج وزيادة أسعار كتاكيت الجدود والأمهات.
ولم يكن تراجع إنتاج البيض، الذي انخفض إلى ما بين 6 و8 مليارات بيضة خلال العام الجاري، وفقًا لتقديرات المصادر، ومحاولة تقليص الخسائر، هما العوامل الوحيدة وراء ارتفاع الأسعار.
فقد بدأت أصابع الاتهام تتجه نحو السماسرة الذين يتلاعبون بالأسعار فيما بينهم، مما يعد انتهاكًا لقانون الممارسات الاحتكارية.
وبالفعل، قام جهاز حماية المنافسة بتحريك دعوى ضد بعض المتورطين، وانتهت القضية بتغريم أربعة منهم بمبلغ 20 مليون جنيه.
يحدد العرض والطلب نظريًا أسعار البيض والدواجن، إلا أن الأسواق تتأثر بشكل كبير بعشرات البورصات غير الرسمية المتداولة عبر فيسبوك، التي استغلت غياب بورصة الدواجن الرسمية وأدين بعض القائمين عليها بتهم احتكار.
ويقول الدكتور عبدالعزيز السيد، رئيس شعبة الثروة الداجنة، إن البورصة الرسمية للدواجن بدأت عملها من التسعينيات واستمرت حتى عام 2011، وساهمت في ضبط السوق، على الرغم من حدوث بعض المخالفات الموجودة في أي بورصة عالمية، والتي يمكن تلافيها والتعامل معها.
لكن توقفها عن العمل في يناير من عام 2011 أربك سوق الدواجن، موضحًا أن البيض لم يكن مدرجًا على البورصة، لكن إدراجه عليها في حالة عملها من جديد سيحسن الوضع.
ومن جانبه، يرى أحمد نبيل، رئيس شعبة البيض باتحاد منتجي الدواجن، أن قرار الاستيراد يمثل تهديدًا للصناعة التي تعاني من أجل البقاء.
ويدعو رئيس شعبة الثروة الداجنة إلى ضرورة التوسع في زراعة مكونات الأعلاف مثل الصويا والذرة الصفراء، بالإضافة إلى استثمار الدولة في توطين إنتاج الجدود في مصر.
كانت مصر من الدول الرائدة في توطين صناعة سلالات الدواجن المحلية، حيث أنشأت معهد بحوث الإنتاج الحيواني في الخمسينيات.
ومع ذلك، تراجع نشاط المعهد بشكل كبير في الوقت الحاضر نتيجة ضعف التمويل و"التدمير المتعمد" كما يصفه هشام العربي، الأستاذ السابق في المعهد التابع لوزارة الزراعة.
وفقًا للعربي، أنتج معهد بحوث الإنتاج الحيواني سلالة دجاج تُعرف بـ "دُقي 4"، وهي مزيج من السلالة المحلية الفيومي وسلالة أجنبية تنتج "دُقي 4" متوسط 220 بيضة خلال دورة إنتاج مدتها 52 أسبوعًا، بينما يبلغ متوسط إنتاج السلالات الأجنبية 280 بيضة.
ويشير العربي إلى أنه "إذا كان هناك دعم وبحث علمي كافٍ، لكانت 'دُقي 4' الآن تنتج بيضًا أكثر من السلالات المستوردة، بل ربما كنا نصدر منها أيضًا. حاليًا، يباع منها بعض الكميات للمربين، لكن على نطاق ضيق نظرًا لعدم توفر التمويل لتعويض الإنتاج الجديد."
وتقدم العربي، العام الماضي، بمذكرة إلى مدير معهد بحوث الإنتاج الحيواني محذرًا من مخاطر التخلص من قطعان الأصول الوراثية للدواجن المحلية بحجة نقص الأعلاف، مما أدى إلى تقليص أعدادها من 160 ألف دجاجة في عام 2015 إلى تسع آلاف دجاجة فقط في عام 2023.
كما شهدت أعداد محطات البحث المُنتجة للدواجن انكماشًا، حيث انخفضت من 13 محطة إلى ست محطات على مدار 40 عامًا.