حكاية "أم كلثوم".. الأسطورة الخالدة التي ألهمت المُبدعين بالعديد من الأعمال الفنية

رغم مرور أكثر من خمسة عقود على رحيلها، لا تزال أم كلثوم تتصدر المشهد الفني والثقافي، وتفرض حضورها الاستثنائي على صُنّاع السينما والدراما والمسرح.

كوكب الشرق ليس مجرد صوت استثنائي تُردّد أجيال كاملة أغانيه، بل حالة إنسانية وفنية لا تنفد، تتجاوز حدود الزمن لتمتد من الماضي إلى حاضرنا، وتحرك خيال فنانين وكتاب ومخرجين لا يتوقفون عن العودة إلى سيرتها.

وفي الوقت الذي تخشى فيه الدراما عادة تقديم السير الذاتية لما تحمله من مقارنات حادة وجدالات مسبقة، تبقى شخصية أم كلثوم استثناءً فريدًا، فقد قُدمت سيرتها في أعمال سينمائية وتلفزيونية ومسرحية مرارًا دون أن تفقد بريقها أو تتراجع مكانتها.

ومع اقتراب عرض فيلم "الست" بطولة منى زكي، يعود السؤال ما الذي يجعل أم كلثوم الرقم الأصعب في الدراما؟.. ولماذا تظل سيرتها مادة لا تشيخ؟

مصدر إلهام

يقول الناقد طارق الشناوي، إن أم كلثوم شخصية "ملهمة بطبيعتها"، ولهذا كانت هدفًا للعديد من الأعمال الدرامية والتسجيلية، ولا يزال اسمها يثير التساؤلات والإعجاب، ويحفز الكُتّاب والمخرجين والمنتجين على تقديم حياتها في أعمال فنية متنوعة.

ويضيف: "شهدت الساحة الفنية صدفة غريبة، مثل مسرحية دايبين في صوت الست التي لا تزال تُعرض، كما ينتظر الجمهور قريبًا عرض فيلم الست بطولة منى زكي".

ويشير الشناوي إلى أن سر عبقرية أم كلثوم يكمن في بداياتها المتواضعة، فهي نشأت في أسرة فقيرة ومعدمة دون أي وسائل أو مقومات للحياة، لكنها امتلكت إرادة قوية وموهبة ربانية صاغتها شخصيات مؤثرة في حياتها، مثل الشيخ أبو العلا محمد، والشيخ زكريا، والقصبجي، ومن خلال هذه الرحلة صاغت أم كلثوم أسطورة خالدة، لكنها في جوهرها ظلت تتميز بالذكاء والموهبة الحقيقية التي جعلتها استثنائية.

أسطورة تجاوزت المقاييس

ويضيف الشناوي أن أم كلثوم تجاوزت كل المقاييس العلمية والفنية لتفرض إبداعها على المسرح والمجتمع، معتمدة على أدواتها الفطرية ورغبتها في التعلم وثقافتها الواسعة في القرآن الكريم والشعر القديم، ويؤكد أن هذه العناصر لعبت دورًا محوريًا في تشكيل مسيرتها.

ويشير إلى تحدٍّ كبير يواجه صنّاع الأعمال الفنية حول حياتها، وهو توقع الجمهور رؤية الأسطورة المثالية، بينما تكمن القوة الحقيقية للدراما في عرض لحظات ضعف الإنسان، لا استعراض قوته فقط.

ويضيف: "إذا أراد صانع العمل أن يقدم تجربة متفردة ومميزة عن أم كلثوم، فعليه أن يركز على التأمل في ضعفها كبشر، في الوقت الذي يبقى فيه جمهورها غالبًا متمسكًا بالصورة المثالية الكاملة، كما حدث في مسلسل أم كلثوم إخراج إنعام محمد علي، إذ تم اللعب على المقومات القوية والضعيفة معًا لتقديم صورة متكاملة للشخصية".

الخلود والتأثير

من جهتها، تقول الناقدة سامية حبيب، إن زيادة عدد الأعمال الفنية التي تتناول شخصية أم كلثوم ليس له تفسير سوى حقيقة واحدة، هي أن "الست" بقيت حاضرة في وجدان الناس رغم مرور أكثر من خمسين عامًا على رحيلها. فالخلود الذي صنعته بفنها طوال حياتها هو ما يجعلها باقية في الذاكرة الجماعية، وما يجعل تأثيرها ممتدًا عبر أجيال متعددة.

وتوضح "سامية" أن الجمهور يتفاعل مع العمل الفني بناءً على قيمته وصدقه في نقل السيرة، قائلة: "لو قُدم العمل حياة أم كلثوم بصورة حقيقية ووفية كما حدث في مسلسل أم كلثوم بطولة صابرين، فإن نجاحه يصبح محققًا مسبقًا".

وتؤكد أنها لا تتفق مع إصدار أحكام مسبقة على فيلم الست بطولة منى زكي قبل عرضه، مطالبة بضرورة مشاهدة العمل أولًا وتقييمه نقديًا قبل النظر إلى آراء الجمهور.

وتضيف: "الجمهور المصري يتقبل أي عمل فني تتوفر فيه مقومات الجودة الفنية والجمالية، خصوصًا إذا كان العمل عن شخصية خالدة مثل أم كلثوم".

وترى حبيب أن سر نجاح أي عمل يتناول سيرتها يُكمن في الصدق والأمانة في عرض السيرة الذاتية، لأن الجمهور يعرف شخصية أم كلثوم جيدًا وشاهدها في أكثر من عمل سابق.

ورغم اختلاف معايير السيرة الذاتية من حيث التفاصيل الدقيقة، فإن سمعتها الفنية ومكانتها الكبيرة يجعلان أي عمل عنها ذا قيمة كبيرة.

رؤية مختلفة

أما الناقدة ماجدة موريس فتقول إن اسم أم كلثوم يحمل ثقلًا كبيرًا ويترك أثرًا عميقًا في نفوس الناس، ولهذا فإن تقديم حياتها وفنها يحتاج إلى رؤية مختلفة ومبتكرة تتجاوز الصور النمطية التقليدية.

وتضيف موريس أن عوامل نجاح أي عمل عنها تعتمد في المقام الأول على قوة السيناريو وقدرته على جذب المشاهد وإقناعه، وكذلك على براعة المخرج في إدارة التصوير والمونتاج والتعامل مع الممثلين بطريقة تُبرز جوهر الأحداث والشخصيات.

وتؤكد أن العمل الناجح يجب أن يترك لدى المشاهد انطباعًا جديدًا وأفكارًا لم تُقدّم سابقًا، مشيرة إلى أن حياة أم كلثوم مليئة بالتفاصيل الدقيقة والمعقدة، وأن الأعمال السابقة، سواء كانت مسلسلات أو مسرحيات، لم تتمكن من تغطية كل جوانب حياتها.

مسرحية "دايبين في صوت الست"

ويؤكد أحمد فؤاد مخرج مسرحية دايبين في صوت الست أن العمل انطلق من رؤية مختلفة تمامًا عما قدم عن أم كلثوم من قبل، قائلًا: "نحن نقدم نوعًا جديدًا من المسرح لم تقدم من خلاله أم كلثوم سابقًا، إنه مسرح غنائي بالكامل، على غرار ما نراه في الخارج من أعمال كبرى تُخصص للشخصيات المؤثرة في التاريخ الفني والثقافي. فالشخصيات الكبيرة عادة يكون لها مسرح غنائي يحتفي بها، وهذا النوع من العروض يحتاج إلى إنتاج ضخم، خاصة عندما نتحدث عن قامة فنية بحجم أم كلثوم، إحدى أهم المطربات في الشرق الأوسط. من هنا جاءت انطلاقتنا، ليس لأن أم كلثوم قُدمت فنيًا من قبل، بل لأن من الطبيعي أن نُكرّم شخصية مثلها في أعمالنا، ونُبقي سيرتها حية وحاضرة دائمًا".

ويضيف: "التحضير كان شديد الأهمية، فلم نكن نبحث عن ممثلة تشبه أم كلثوم من حيث الشكل فقط، بل كنا نبحث عن روح أم كلثوم. كما أن الأداء الصوتي كان تحديًا كبيرًا؛ فلا يمكن أن نقدم شخصية صاحبة أعظم صوت في تاريخ الغناء العربي دون الاهتمام بالصوت الذي يجسدها. ورغم استحالة إيجاد صوت مماثل لصوت أم كلثوم، كان لا بد أن يكون الصوت مختلفًا ومميزًا، لذلك مررنا بعدة مراحل، من اختيار الممثلة المناسبة، إلى كيفية الاقتراب بها من الصورة الذهنية الراسخة لدى الجمهور".

وتابع: "قدمنا في العمل جوانب تُعرض لأول مرة، وتناولنا فيها نقاط القوة والضعف والمشاعر الإنسانية بأطيافها المختلفة، فهي إنسانة من لحم ودم، لها مواقف سياسية واجتماعية، ولها انفعالاتها وطباعها الخاصة، حرصنا على إبراز الجوانب الإنسانية في حياتها، لا صورتها الأسطورية فقط، فمحاولة لصنع حالة مسرحية تحتفي بتراث أم كلثوم وتعيد تقديمه بروح جديدة تليق بها".

وعن تجربته في المسرحية، يقول فؤاد: "هذه التجربة كانت بالنسبة لي فريدة من نوعها؛ أن نقدم مسرحًا غنائيًا ويتفاعل معه الجمهور بهذا الشكل الإيجابي، فهذا كان أهم ما أسعى إليه. ونجحنا في تحقيق كل معايير المسرح الغنائي، رغم التحديات الكبيرة التي واجهتنا خلال التحضير والتنفيذ".

 

التعليقات