حنين النهضة

تمنيت أن أشهد بداية نهضة شعب مصر من عثرته، حين يستشعر أفراده الإنصاف والمساواة، وتهب بوادر السلام الاجتماعي أركان وطنه، ويشارك المجتمع المدني في ريادة وبناء مستقبل يحقق الأمل للمجتهدين من أبناءه وبناته. وتصورت أن مرحلة ما بعد الثورتين ستكون الأفضل لتحقيق هذا الطموح. إلا أن المسار الحالي قد جعلني أدرك أن هذا الاستحقاق ما زال بعيدا عن المنال في ظل انفصال ما قامت من أجله الثورتين عن المتاجرين بالرأي العام والمدعين دعمهم للدولة.
وبدا لي غياب رؤية سياسية ديمقراطية شاملة، واستبدالها بخطاب يدين الاختلاف ويجرم المعارضة ويحرض على الإقصاء. وبالرغم من مصارحة القيادة السياسية – خلال حملة انتخابات الرئاسة في 2013 -بخطورة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في مصر إلا أن اختصار أولويات الإصلاح – كما شهدناها لاحقا -في مواجهة تهديدات الإرهاب، وادعاء قيادات الدولة وخبرائها في كافة المجالات الأخرى بأننا نملك الريادة التي تجعلنا قاب قوسين من القمة أو أننا متربعين عليها بالفعل قد ساهم في إفساد الحشد الشعبي للصعود من عثرة التدني في العمل والاستشراء في الإهمال والفساد والتراجع في تحقيق العدالة الناجزة.
وبات المصريون متوهمين أن العائق الوحيد أمامهم هو الإرهاب، وأن أي اختلاف في الرأي يعيق من قدرة الدولة علي التصدي له. والحقيقة أن مؤسسات الدولة تعيش تناقضا شديدا بين ادعائها الاعتراف بشرعية الثورتين وعدم الاعتراف بشرعية الثوار. وهو إن دل على شيء فإنما يدل على أن القائمين على إدارة شئون البلاد يرفضون مبدأ الثورة علي الرئيس الأسبق مبارك ويسعون للانتقام من كل من ساهم في تعبئة الكتلة الحرجة المتسببة في القضاء على نظامه. ولا يأتي هذا الموقف دفاعا عن الرئيس الأسبق بقدر ما هو تحذيرا لشعبه من تحرشه مرة أخري بسلطة الحكم. وللأسف فإن الممارسات الأمنية والإعلامية للنيل من أصوات التيارات اليسارية والليبرالية التقدمية، تحت ذريعة باطلة بأنهم تآمروا مع أعداء الوطن بالخارج لصالح الإخوان المسلمين، هي محاولة لإذعان الشعب لكي يفقد ثقته في كافة القوي السياسية في مصر، وأن ينحسر دعمه وانصياعه فقط لرئيس لدولة والقوات المسلحة وأجهزة الشرطة كونهم أركان القوة الوحيدة القادرة على التغيير والتأثير.
إلا أن عشق الغالبية العظمي من المصريين لقواتهم المسلحة وتقديرهم لدورها الوطني، وقناعتهم بأهمية أجهزة الشرطة، لا يعني أن مصالح الشعب والوطن تتحقق من خلال اتساع أو استبدال أدوار تلك المؤسستين لتحل محل أجهزة الدولة الأخرى وقوي المجتمع المدني. ومما لا شك فيه أن استمرار مثل هذا النهج يعيق عملية التحول الديمقراطي ويعيدنا مرة أخري إلى مصاف أنظمة الحكم الاستبدادي.
علينا أن نتوقف عن العودة للقديم وأن نستفيد من فداحة الأخطاء السياسية التي طالما وقعنا فيها خلال العقود الكثيرة الماضية. علينا أن نتعلم أن نبدأ من حيث انتهي الأخرون، وأن نستفيد بالتجارب الناجحة في العديد من المجتمعات الديمقراطية الرائدة، وأن نتدارك الأخطاء التي ربما يكونوا هم أيضا قد وقعوا فيها. علينا أن نستفيد من مفهوم التطور الحضاري الذي واكب العالم منذ نشأته، وأن نفهم أن عصور النهضة عبر التاريخ لم تملكها دولة بعينها ولم ينفرد بها شعب أو جماعة أو أمة، وإنما استمرت في تنقلها من مكان لمكان وتنوعت مفاهيمها طبقا لمتطلبات كل زمان. علينا أن نستوعب أن فكرة النهضة هي تلك الرغبة في الاستفادة والتعلم بهدف التطور والارتقاء.
وحينما تنهض أمة ما في زمن ما فدائما ما يكون هذا من منطلق رؤية جديدة للحياة وللواقع تستهدف تقدما سريعا على المستوين الفكري والعلمي مع الاستعانة بتجارب الأخرين، حتى وإن تمسكت تلك الرؤية بالبعد الثقافي والقيمي لتلك الأمة.  فالنهضة ليست ثورة على الثقافة وإنما هي امتداد لها في إطار يحقق المزيد من النفع والخير للشعوب ويحسن من أدائهم واستخدامهم واستحقاقاتهم.
وعلينا أن نعي أن الانطلاق نحو مرحلة تتسم بالنهضة هو نتاج الحاجة للهروب من هاوية أضرت بأمة ما، فالنهضة مرتبطة ارتباطا شديدا بدرجة الحاجة إليها وإلحاح الواقع على من يعيشون فيه للسعي نحو الخروج من تبعاته. ومما لا شك فيه أن الحالة المصرية في حاجة شديدة لمثل هذا الفكر النهضوي بدلا من محاربة طواحين الهواء.
والحالة المصرية لا تختلف كثيرا في تحدياتها عن العديد من شعوب العالم، حتى وأن أصر الكثيرون منا على تلك الخصوصية. وفي رأيي أن أولوياتنا تبدأ من ضرورة التحرر من تلك الخصوصية التي عزلتنا كثيرا خلال الأعوام الستين الماضية عن الاستفادة بتجارب ناجحة سبقتنا في كافة شئون الحياة. والحقيقة أن أسرنا داخل أنفسنا لم يكن بسبب طبيعة الإنسان المصري، بقدر ما كانت نتيجة لمنهجية السلطة في عزل الشعب عن العالم مستخدمة عدد من المزاعم الزائفة عن ريادتنا الدائمة واستعداء العالم الخارجي لنا وبالتالي عدم احتياجنا له.
والحقيقة أننا لن نبدأ الصعود إلا أذا أدركنا أننا نحتاج الأخرين. وأتذكر هنا قول شاعر الهند طاغور: "نقترب من العظمة بقدر ما نقترب من التواضع."
وللحديث بقية...

التعليقات