شعب لا يصنع رأيه

اهتم عبد الناصر بصناعة الرأي العام لضمان دعم الجبهة الداخلية له وأنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. واستمر السادات علي النهج إلى أن انتهت حرب 1973. وشهدت تلك الفترة سيطرة الدولة على الرأي العام فألغت الأحزاب، وشكلت تنظيم سياسي واحد، وأنشئت مؤسسات تابعة لإدارة الدولة لتمثيل شرائح المجتمع المؤثرة. وتلت تلك الفترة إهمال أنظمة الحكم لدعم الشعب لها، وعملت مؤسساتها على إخماد تأثير الرأي العام على القرار السياسي.
وتمادي مبارك في إهماله للرأي العام حتى بعد أن اندلعت مظاهرات الغضب في 25 يناير. والحقيقة أن إصراره على تجاهل مطالب شعبه هو السبب الرئيسي الذي أدي إلى سقوطه في 11 فبراير 2011. وبالرغم من إدراك مؤسسات الحكم بعد ثورة يناير لأهمية رد الفعل الشعبي إلا أنها تعاملت معه باعتباره خطرا يهدد قوة الدولة وأمنها الوطني. وبدلا من اتباع الدولة لسياسة أكثر انفتاحا لصناعة الرأي العام تسمح للقائمين على الحكم باستطلاع ودراسة أراء الشعب والتعامل معها في إطار يزيد من تلاحم الإرادة الشعبية والسياسية، إذ بنا نشهد نمطا قديما لصناعة الرأي العام يقوم على القمع الفكري والاستباحة والابتزاز والاغتيال المعنوي للعديد من الشخصيات والكيانات المجتمعية التي قد تختلف توقعاتها ومطالبها أحيانا مع السلطة الحاكمة.
أتمنى أن يدرك الرئيس السيسي، وهو من فاز بأغلبية ساحقة لم يحصل أحدا عليها من قبله، أن من أبسط حقوق المواطن ومن واجبه أن يكون صاحب رأي يعبر ويدافع عنه ويمارسه من خلال معرفته بدوره الإيجابي في اختيار وتصويب ودعم أجهزة السلطة. وأن تعظيم دور المواطن وإشراكه بصورة سلمية في صياغة الرأي المؤثر لا يمكن تحقيقه إلا في إطار مستقل يمكن المجتمع من تنظيم نفسه طبقا للمصالح المشتركة لشرائحه وفئاته وعناصره وتوجهاته المختلفة. وأن حرية صناعة الرأي وتفعيل دور المجتمع المدني هما الضمانة الأساسية والأكيدة لسلامة الوطن وتنميته ودعم النظام الحاكم وكافة مؤسساته. وأن تلك التنظيمات ستساهم في تشكيل التوجهات والمطالب والبرامج السياسية للأحزاب بحيث تصبح الأخيرة أذرع سياسية للتعددية المجتمعية.
أتمنى أن نستفيد من أخطاء الماضي ونتصدى لأسباب تلك الأزمة إن أردنا تمكين الشعب من المشاركة والتأثير الإيجابي على القرار السياسي ودعمه. وترجع الأسباب إلى القيود التشريعية والأمنية على حركة تنظيم المجتمع المدني، وعدم تشجيع السلطة على تنمية واحترام السلوك الجماعي، وإلى سيطرة الخطاب الديني على كافة أليات صياغة الرأي العام. هذا بالإضافة الي إقصاء الدولة لكافة نهج القياس الكمي والنوعي للرأي داخل المجتمع المدني، واقتصار توصيفه وتنوعه وتأثيره وأهميته لمؤسساتها. كما ساهمت التشريعات المنظمة للأحزاب السياسية في إضعاف دورها التعبوي من خلال منع دعم الكيانات الاعتبارية المجتمعية لها أو التنسيق معها واختصار الدعم الذي يحصل عليه الأحزاب من الأفراد فقط. وتتعامل الدولة في اختياراتها للتكنوقراط، وهي الشريحة التي باتت تتحكم في القرار السياسي في الكثير من الدول نتيجة لسرعة واستمرار التطور العلمي والتكنولوجي، بمعايير ترجح الثقة والولاء على حساب الكفاءة والاتقان في العمل، وبثقافة تنحاز لأصحاب الخبرات الطويلة المنتهية الصلاحية على حساب المؤهلين تعليميا والأكثر قدرة وطاقة واستيعابا لأليات التطور من الشباب. كما تراجع دور الدارسين والباحثين الأكاديميين والمتخصصين في الأوجه المختلفة للعلوم الإنسانية، والمفترض تمتعهم بدرجة عالية من المصداقية والحيادية والكفاءة المهنية والالتزام بالقيم المتعارف عليها والتأثير على قادة الرأي، كنتيجة طبيعية لانهيار التعليم العام في مصر وتأثيره على مخرجات الدراسة والبحث بالجامعات والمراكز البحثية. وتعرضت الهيئات المدافعة عن الثوابت العالمية للحريات والمساواة والحقوق لحملات من التشكيك والادانة أضرت بقدراتها على التأثير أو التغيير.
وفي ظل هذا الفراغ والتغييب لمكونات الرأي العام وانفصاله عن أصحاب القرار السياسي، باتت وسائل الإعلام، وهي صاحبة التأثير الأكبر في صياغة الرأي العام وترتيب أولوياته، تعمل على تغيير اهتمامات الجماهير ومطالبها بما يتناسب مع مصالح المتحكمين في تلك الوسائط. واستباحت أجهزة الإعلام لنفسها التخلص من العديد من الإعلاميين المخلصين لمهنتهم من خلال حملات للإساءة بهم. وتجردت معظم مؤسساتها من منهج الحوار واحترام الرأي والرأي الأخر، وباتت تحصر متابعي قنواتها ومحطاتها في خطاب اعلامي موحد يوائم في أراءه ومواقفه توجهات الدولة. وشارك في الترويج لهذا النهج شخصيات تصف نفسها بالنخبة وبالخبرة تبحث عن مغازلة الحاكم والتمجيد له، تستضيفها القنوات والمحطات دون أدني اهتمام بتتبع وتقييم أهلية الضيوف من حيث التخصص والمعرفة والموضوعية. وتحول العديد من الإعلاميين من رسالتهم الأساسية وهي البحث عن الحقيقة، الي احتكار منابر الإعلام للتعبير عن آرائهم الشخصية أو أراء من وضعوهم على تلك المنابر.
إن نجاح أجهزة السلطة لن يتأتى إلا من خلال تحقيق توازن شعبي وسياسي يقوم على استعادة الرأي الحر والمشاركة المجتمعية الحرة والإعلام الحر حتى لا تصبح مقولة أن الشعب هو مصدر السلطات مقولة باهتة وسخيفة وكاذبة.
وللحديث بقية...

التعليقات