لا لطبول حرب المذاهب

استباحت مجموعات من المسلمين لنفسها أن تقتل الناس وتغتصب نسائهم تحت ستار الدفاع عن الدين. إلا أن حقيقة تلك الأحداث المأساوية هي نتاج تناحر سياسي طويل بين السعودية وإيران تدفع أوطان أخرى ثمنا باهظا له. وما يزيد من قلقي هو تورط مصر في هذا الصراع من منطلق الدفاع عن المصالح العربية والسنية، خاصة في ظل الدعم السعودي لمصر والعلاقات المقطوعة مع إيران منذ دعم مصر العسكري للعراق في حربها ضد إيران.
ومن المفارقات التاريخية أن مصر هي أول من تصدت للحركة الوهابية حين نجحت حملاتها العسكرية في اخماد ثوراتهم في شبه الجزيرة العربية في 1816، والتي نتج عنها إجهاض قيام دولة اسلامية سنية ذات نظام سلفي لفترات تعدت قرنا من الزمان، في حين أن أفكار أهل السنة والجماعة المنسوبة لهم تمكنت من التوغل داخل المجتمع المصري منذ أن تولي الرئيس السادات مقاليد الحكم عام 1970.
والشيعة لها وجود بارز في قلب القاعدة الشعبية المصرية قبل دخول الفاطميين بقرنين من الزمان كنتاج طبيعي لعشق المصريين لأهل البيت. وبعيدا عن مواقف الحكام طبقا لاختلاف مذاهبهم فلم يجد المصريون أي سببا للتحيز لأيا من المذهبين. ويذكر أن المصريون الشيعة في العصر الفاطمي كانوا يمثلون الأغلبية المسلمة. وحينما أسقط صلاح الدين الدولة الفاطمية استمرت الشخصية المسلمة المصرية في تعاملها مع الدين وفق ثوابت معينة لا تتأثر باختلاف مذاهب من يحكموها، وكان اللين هو أحد أهم ملامح تلك الشخصية.
وقد لعبت مصر دورا هاما في الدعوة للتقريب بين المذهبين والذي تبناه الكثير من علماء الأزهر عام 1946 باعتبار أن المذاهب ليست من أركان الإسلام وأن الثقافة الإسلامية يجب أن تكون جامعة وليست مذهبية ضيقة. وحينما تولي عبد ناصر حكم البلاد جاء سعيه للوحدة العربية وحركة عدم الانحياز وحتى الدول الإسلامية مجردا من أية اختلافات طائفية أو مذهبية بهدف استقطاب كافة المجتمعات التي تحررت من الاستعمار في ذلك الوقت، في حين كانت الرؤية السعودية أحادية منحازة لتوحيد أهل السنة تحت رايتها. وحينما فتح السادات الطريق للحركات الإسلامية في مصر، رحبت السعودية بهذا التحول لتشهد العلاقات تحسنا مؤقنا بين البلدين. إلا أن العلاقات لم تشهد استقرارا مثلما كانت في عهد مبارك.  وانحازت السعودية لمبارك في بداية ثورة 25 يناير 2011 واتسمت العلاقات بعدها بالهدوء الحذر. وفي أعقاب ثورة 30 يونيو 2013 بادرت السعودية بدعمها، وتصدت لكافة محاولات الدول الغربية للنيل من شرعيتها.
ومصر لم تكن طرفا في الصراع السعودي الإيراني إلا في عصر مبارك حين انصاعت الإرادة السياسية المصرية للهيمنة السعودية على المنطقة. والحقيقة أن تلك الهيمنة لم تتم في صياغة تؤيد حق الشعوب العربية أو في إقرار مبادئ العدل والمساواة في دول المنطقة بل جاء منهجها السياسي انتقائيا لقمع السلطات غير السنية باختلاف مسمياتها، سواء كان ذلك من خلال تأثيرها على توازن السلطة السياسية في لبنان لصالح الفصائل السنية، ودعمها لصدام حسين ضد الأغلبية الشيعية والأكراد، ومحاولات نيلها من الحكم العلوي حافظ الأسد ومن بعده بشار، ومساندتها للمقاومة السنية أمام قمع السلطة الشيعية الحالية في العراق مما أسفر عن ظهور تنظيم داعش، وتدخلها عسكريا لقمع المعارضة الشيعية في البحرين والتي تمثل أكثرية التعداد هناك، ومحاولاتها لبث الفتن بين أهل الشيعة والسنة في الكويت، لولا نضوج النظام السياسي في الكويت الذي حال دون ذلك، وحربها الضارية ضد الحوثيين في اليمن، وأخيرا اضطهادها لمواطنيها من الشيعة والذين يمثلون 15% من تعداد السعوديين.
وأنا هنا لا أسعى للدفاع عن النظام الإيراني ولا أحاول تبرئته من أية أحداث قد تثبت تورطه فيها. إلا أني ضد محاولات ايهام الرأي العام العربي عامة والمصري خاصة بأن إيران هي المعتدية وأن السعودية والدول العربية هم الضحايا. فحقيقة ما نشهده هي محاولة سعودية لإقصاء الدور الإقليمي الإيراني وهو ما لن تقبله إيران بحكم طبيعة وأهمية مصالحها. وتستغل السعودية مكانتها الروحية خاصة بين أهل السنة من المسلمين لوجود الحرمين الشرفين بها، ولكونها أكبر أسواق العمل للمسلمين وخاصة المصريين منهم، ولوعودها بدعم اقتصاد العديد من الدول العربية وتحديدا مصر، ولمواقفها السياسية المساندة للنظام الحاكم في مصر، ولتمكنها من خلال سيطرة الفكر الوهابي علي المحاور الشعبية في مصر على استثارة العداء المذهبي ضد أتباع الشيعة.
والقيادة السياسية المصرية باتت لا تستطيع تجاهل ما تستخدمه السعودية للتأثير على صناعة القرار. فالواقع المتدني الذي تسبب فيه نظام حكم مبارك قد فرض علينا الاحتياج للدعم السعودي ومساندتنا للملكة. إلا أنه علينا أيضا أن ندرك أن مصالحنا تستدعي أيضا التوافق الإقليمي بعيدا عن التصنيفات الدينية أو المذهبية أو القومية، وأن أهم أولويات هذا التوافق هو القضاء على التنظيمات الإرهابية السنية وعلى رأسها أنصار بيت المقدس والجماعات السلفية الجهادية والتكفيرية الأخرى في مصر المرتبطة بتنظيم القاعدة، وجيش مصر الحر في ليبيا والسودان والمدعم من جماعة الاخوان المسلمين وعدد من الحركات السلفية، وتنظيم أنصار الشريعة في ليبيا، وتنظيم داعش في العراق وسوريا، وجبهة النصرة في سوريا والمرتبطة بتنظيم القاعدة في العراق. وتأتي علي نفس درجة الأولويات تجفيف مصادر البيئة الحاضنة للإرهاب من خلال إعادة إحياء ثقافة تدعو إلى التوحيد وليس للانقسام، وتحبذ حرية العقيدة وتنهي عن التكفير، وتحترم الاختلاف في الأديان والعقائد والمذاهب، وترحب بالتعايش السلمي وتدين كافة أشكال العنف، وتؤكد على حل النزاعات من خلال الحوار والتفاوض بعيدا عن اللجوء للإرهاب والدمار، وأيضا من خلال تفعيل رؤية تنموية تساند الجهود الأمنية للقضاء على الإحساس العام للمواطن بالظلم والتهميش.
ويستدعي هذا التوجه من وجهة نظري مراجعة الموقف المصري من علاقتها بإيران ودعوتها للمشاركة في هذا التوافق الإقليمي لإنهاء هذه الحالة من بعث الفتن والكراهية بين أتباع المذاهب لأطماع سياسية مدمرة. وأتمني أن يتم هذا في إطار لا يضر بالعلاقات المصرية السعودية.  
إلا أن هذا الإطار يحتاج اصلاح ثقافي جذري وشامل في مصر أنوي التطرق إليه في مقال لاحق.
وللحديث بقية ......

التعليقات